صرف مخلصنا له المجد هذا اليوم في بيت عنيا في تعليم تلاميذه وتطمينهم وأنه لا يتخلى عنهم. ولم يذكر الكتاب أنه عمل شيئاً في هذا اليوم ليشير على أنه قصد الوحدة والانفراد عن الناس، وتجنب الاجتماعات كما كان يستريح خروف الفصح قبل ذبحه في اليوم المعد له.
ترك السيد له المجد الهيكل عند مساء يوم الثلاثاء ورجع إلى بيت عنيا وفي إرادته عدم العودة إليه البتة. وذلك بعد أن قال لليهود "هُوَذَا بَيْتُكُمْ يُتْرَكُ لَكُمْ خَرَاباً!. لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ لاَ تَرَوْنَنِي مِنَ الآنَ حَتَّى تَقُولُوا: مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ" (مت23: 38-39) مع أنه هو ربه الحقيقي. وقد بين ذلك بسلطانه عليه قبل هذا بقوله تعالى لباعة الحمام "وَقَالَ لِبَاعَةِ الْحَمَامِ: «ارْفَعُوا هَذِهِ مِنْ هَهُنَا. لاَ تَجْعَلُوا بَيْتَ أَبِي بَيْتَ تِجَارَةٍ». فَتَذَكَّرَ تلاَمِيذُهُ أَنَّهُ مَكْتُوبٌ: «غَيْرَةُ بَيْتِكَ أَكَلَتْنِي»" (يو2: 16-17) وقد أثبت ذلك أيضاً بواسطة دخوله أورشليم علانية بالاحتفال العظيم. (مت21: 1-17) ولكن حيث أنه قد رُفِض من اليهود رفضاً تاماً وقاطعه الرؤساء فرتكهم السيد المسيح وترك المكان الذي اختاره الرب ليضع اسمه فيه إلى الأبد. ولم ينسبه إليه بعد. وكأنه يقول إن البيت الذي كان لي وأنت جعلتم العبادة فيه صورة خارجية وريائية ليس هو بيتي، فأتركه لكم خرباً وذلك وفقاً لما قاله الله تعالى قديما لسليمان "إِنْ كُنْتُمْ تَنْقَلِبُونَ أَنْتُمْ أَوْ أَبْنَاؤُكُمْ مِنْ وَرَائِي، وَلاَ تَحْفَظُونَ وَصَايَايَ فَرَائِضِيَ الَّتِي جَعَلْتُهَا أَمَامَكُمْ، بَلْ تَذْهَبُونَ وَتَعْبُدُونَ آلِهَةً أُخْرَى وَتَسْجُدُونَ لَهَا، فَإِنِّي أَقْطَعُ إِسْرَائِيلَ عَنْ وَجْهِ الأَرْضِ الَّتِي أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا، وَالْبَيْتُ الَّذِي قَدَّسْتُهُ لاِسْمِي أَنْفِيهِ مِنْ أَمَامِي، وَيَكُونُ إِسْرَائِيلُ مَثَلاًوَهُزْأَةً فِي جَمِيعِ الشُّعُوبِ، وَهَذَا الْبَيْتُ يَكُونُ عِبْرَةً. كُلُّ مَنْ يَمُرُّ عَلَيْهِ يَتَعَجَّبُ وَيَصْفُرُ، وَيَقُولُونَ: لِمَاذَا عَمِلَ الرَّبُّ هَكَذَا لِهَذِهِ الأَرْضِ وَلِهَذَا الْبَيْتِ؟ فَيَقُولُونَ: مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ تَرَكُوا الرَّبَّ إِلَهَهُمُ الَّذِي أَخْرَجَ آبَاءَهُمْ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ، وَتَمَسَّكُوا بِآلِهَةٍ أُخْرَى وَسَجَدُوا لَهَا وَعَبَدُوهَا. لِذَلِكَ جَلَبَ الرَّبُّ عَلَيْهِمْ كُلَّ هَذَا الشَّرِّ." (1مل9: 6-9)
ففي هذا اليوم (الأربعاء) ذهب يهوذا الإسخريوطي أحد التلاميذ إلى رؤساء الكهنة وقال لهم ماذا تعطوني وأنا أسمله لكم ، فوعدوه أن يعطوه ثلاثين من الفضة (تعادل ثلثمائة وثلاثين قرشاً صاغاً) فباع سيده بهذه القيمة الدنيئة الذي أحبه وانتخبه ليكون له تلميذاً وصيره أميناً للصندوق. (يو 12: 6) وكان هذا لكي يتم ما قيل بالنبي القائل "إِنْ حَسُنَ فِي أَعْيُنِكُمْ فَأَعْطُونِي أُجْرَتِي وَإِلاَّ فَامْتَنِعُوا. فَوَزَنُوا أُجْرَتِي ثَلاَثِينَ مِنَ الْفِضَّةِ. فَقَالَ لِي الرَّبُّ: أَلْقِهَا إِلَى الْفَخَّارِيِّ الثَّمَنَ الْكَرِيمَ الَّذِي ثَمَّنُونِي بِهِ. فَأَخَذْتُ الثَّلاَثِينَ مِنَ الْفِضَّةِ وَأَلْقَيْتُهَا إِلَى الْفَخَّارِيِّ فِي بَيْتِ الرَّبِّ" (زك 11: 12-13)
وبعد ما أسلمه لهم رأى نفسه أنه قد دين وضميره وبخه بكيفية شنيعة مضى تواً "قَائِلاً: «قَدْ أَخْطَأْتُ إِذْ سَلَّمْتُ دَماً بَرِيئاً». فَقَالُوا: «مَاذَا عَلَيْنَا؟ أَنْتَ أَبْصِرْ!».فَطَرَحَ الْفِضَّةَ فِي الْهَيْكَلِ وَانْصَرَفَ ثُمَّ مَضَى وَخَنَقَ نَفْسَهُ. فَأَخَذَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ الْفِضَّةَ وَقَالُوا: «لاَ يَحِلُّ أَنْ نُلْقِيَهَا فِي الْخِزَانَةِ لأَنَّهَا ثَمَنُ دَمٍ». فَتَشَاوَرُوا وَاشْتَرَوْا بِهَا حَقْلَ الْفَخَّارِيِّ مَقْبَرَةً لِلْغُرَبَاءِ. لِهَذَا سُمِّيَ ذَلِكَ الْحَقْلُ «حَقْلَ الدَّمِ» إِلَى هَذَا الْيَوْمِ." (مت27: 3-8) فتم عن يهوذا ما قيل عن لسان داود النبي "لأَنَّهُ قَدِ انْفَتَحَ عَلَيَّ فَمُ الشِّرِّيرِ وَفَمُ الْغِشِّ. تَكَلَّمُوا مَعِي بِلِسَانِ كَذِبٍ. بِكَلاَمِ بُغْضٍ أَحَاطُوا بِي وَقَاتَلُونِي بِلاَ سَبَبٍ. بَدَلَ مَحَبَّتِي يُخَاصِمُونَنِي. أَمَّا أَنَا فَصَلاَةً. وَضَعُوا عَلَيَّ شَرّاً بَدَلَ خَيْرٍ وَبُغْضاً بَدَلَ حُبِّي. فَأَقِمْ أَنْتَ عَلَيْهِ شِرِّيراً وَلْيَقِفْ شَيْطَانٌ عَنْ يَمِينِهِ. إِذَا حُوكِمَ فَلْيَخْرُجْ مُذْنِباً وَصَلاَتُهُ فَلْتَكُنْ خَطِيَّةً. لِتَكُنْ أَيَّامُهُ قَلِيلَةً وَوَظِيفَتُهُ لِيَأْخُذْهَا آخَرُ. لِيَكُنْ بَنُوهُ أَيْتَاماً وَامْرَأَتُهُ أَرْمَلَةً. لِيَتِهْ بَنُوهُ تَيَهَاناً وَيَسْتَعْطُوا وَيَلْتَمِسُوا خَيْراً مِنْ خِرَبِهِمْ. لِيَصْطَدِ الْمُرَابِي كُلَّ مَا لَهُ وَلْيَنْهَبِ الْغُرَبَاءُ تَعَبَهُ. لاَ يَكُنْ لَهُ بَاسِطٌ رَحْمَةً وَلاَ يَكُنْ مُتَرَغِّفٌ عَلَى يَتَامَاهُ. لِتَنْقَرِضْ ذُرِّيَّتُهُ. فِي الْجِيلِ الْقَادِمِ لِيُمْحَ اسْمُهُمْ. لِيُذْكَرْ إِثْمُ آبَائِهِ لَدَى الرَّبِّ وَلاَ تُمْحَ خَطِيَّةُ أُمِّهِ. لِتَكُنْ أَمَامَ الرَّبِّ دَائِماً وَلْيَقْرِضْ مِنَ الأَرْضِ ذِكْرَهُمْ. مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ أَنْ يَصْنَعَ رَحْمَةً بَلْ طَرَدَ إِنْسَاناً مِسْكِيناً وَفَقِيراً وَالْمُنْسَحِقَ الْقَلْبِ لِيُمِيتَهُ. وَأَحَبَّ اللَّعْنَةَ فَأَتَتْهُ وَلَمْ يُسَرَّ بِالْبَرَكَةِ فَتَبَاعَدَتْ عَنْهُ. وَلَبِسَ اللَّعْنَةَ مِثْلَ ثَوْبِهِ فَدَخَلَتْ كَمِيَاهٍ فِي حَشَاهُ وَكَزَيْتٍ فِي عِظَامِهِ. لِتَكُنْ لَهُ كَثَوْبٍ يَتَعَطَّفُ بِهِ وَكَمِنْطَقَةٍ يَتَنَطَّقُ بِهَا دَائِماً. هَذِهِ أُجْرَةُ مُبْغِضِيَّ مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ وَأُجْرَةُ الْمُتَكَلِّمِينَ شَرّاً عَلَى نَفْسِي." (مز109: 2-20) وذكر أيضاً في أعمال الرسل "أَيُّهَا الرِّجَالُ الإِخْوَةُ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَتِمَّ هَذَا الْمَكْتُوبُ الَّذِي سَبَقَ الرُّوحُ الْقُدُسُ فَقَالَهُ بِفَمِ دَاوُدَ عَنْ يَهُوذَا الَّذِي صَارَ دَلِيلاًلِلَّذِينَ قَبَضُوا عَلَى يَسُوعَ. إِذْ كَانَ مَعْدُوداًبَيْنَنَا وَصَارَ لَهُ نَصِيبٌ فِي هَذِهِ الْخِدْمَةِ. فَإِنَّ هَذَا اقْتَنَى حَقْلاًمِنْ أُجْرَةِ الظُّلْمِ وَإِذْ سَقَطَ عَلَى وَجْهِهِ انْشَقَّ مِنَ الْوَسَطِ فَانْسَكَبَتْ أَحْشَاؤُهُ كُلُّهَا. وَصَارَ ذَلِكَ مَعْلُوماًعِنْدَ جَمِيعِ سُكَّانِ أُورُشَلِيمَ حَتَّى دُعِيَ ذَلِكَ الْحَقْلُ فِي لُغَتِهِمْ «حَقْلَ دَمَا». لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي سِفْرِ الْمَزَامِيرِ: لِتَصِرْ دَارُهُ خَرَاباًوَلاَ يَكُنْ فِيهَا سَاكِنٌ وَلْيَأْخُذْ وَظِيفَتَهُ آَخَرُ" (أع1:16-20)
يتبادر للذهن أنه إذا كان لابد أن يُسَلم السيد المسيح لليهود ليُصلب إن لم يكن بيهوذا كان بيغيره والنصوص الإلهية تشير إلى كل ما يعمله يهوذا فما هو ذنبه وما هي خطيئته ولماذا يهلك. الجواب – إن الله تعالى العالم بكل شيء كونه سبق فأوحى عن أفواه عبيده الأنبياء كل حياة الفادي على الأرض. وذلك من بدء بشارة الملاك للسيدة العذراء إلى اليوم الذي ارتفع فيه إلى السماء, وأرسل الروح القدس على التلاميذ، فكل الذين عاملوا السيد المسيح بالخير أو الشر، عملوا ذلك مخيرين لا مسيرين. ولم يرغموا على فعل ما أتوه. فعِلم الله تعالى لا تعلُّق له بسير هؤلاء الناس. فالإنباء بيهوذا وبجميع ما يتعلق به في كتب الأنبياء فعله مخيراً مريداً ولم يرغم على شيء منه، ولم يضع في نفسه أنه يفعل ذلك إتماماً لنبوّات الأنبياء، حتى ولو فعل ذلك لهلك . لأنه ينبغي للإنسان أن ينقل الصلاح ويترك الشر. ولو كان ذلك خدمة لإتمام النبوّات، فالله الذي لم يرد أن ينتقم من القاتل كون أنه قاتل، ولكن قال لقابين، الذي يقتلك ينتقم منه سبعة أضعاف. فكم يكون من سلم دماً بريئاً ومكرماً كما من حمل بلا عيب ولا دنس حباً في ثلاثين من الفضة، العقاب الذي حل بيهوذا يستحقة, ولا ينبغي أن يُعفى منه. حتى ولو كان الأنبياء يؤكدون أنه لابد أن يفعل ذلك لتتم كتب الأنبياء ، لكنه فعل ذلك ابتغاء للربح الدنيوي، دون أن يعلم شيئاً عن كتب الأنبياء فعقابه هو صادرٌعن العدل الإلهي لتسليمه البار.
وهكذا كثيرون الآن كيهوذا يبيعون سيدهم المسيح بأقل مما باعه يهوذا فإنهم يغشون ويرابون ويكسرون يوم الرب. ابتغاء لربح قليل من المال. الذي هو أصل لكل الشرور. الذي إذا ابتغاه قوم ضلوا عن الإيمان وطعنوا أنفسهم بأوجاع كثيرة.
وإن قال البعض إنه كان محتماً أن يتم بالسيد المسيح عند مجيئه إلى العالم ما يتم. وإن لابد أن يسفك دمه إن لم يكن بواسطة يهوذا وحنانيا وقيافا ورؤساء الكهنة. كان لابد أن يكون بغيرهم فلماذا يدين الله هؤلاء. إن كان فعله هؤلاء كان بإيعاز من إبليس عدو الإنسانية. وقد فعلوا ذلك ابتغاءً لنوال حاجات نفسانية. بينما كانت ضمائرهم تشهد للمسيح فيدينهم الله على استسلامهم لشهوات نفوسهم. لأنهم فعلوا ذلك لا إتماماً للنبوّات. بل لتلك الشهوات. فدينونتهم عادلة، سواء كان هؤلاء أو غيرهم. لأنه لم يقل لمهم أصلبوني أو أبغضوني أو تمموا ما لابد أن يتم بي.