تمرد الشباب
كثيرا ما نسمع عن شاب بأنه متمرد على أهله ومجتمعه وقيم مجتمعه , حيث يتصف هذا الشاب بسوء التكيف الاجتماعي , ويتمثل ذلك في عجزه عن مسايرة القيم والمعايير والقوانين في المجتمع الذي يعيش فيه , وبالتالي عجزه عن الأخذ والعطاء بطريقة سليمة مع هؤلاء الذين يحتك معهم من أفراد مجتمعه , سواء داخل العائلة أم خارجها .
ميز الشابويت المتمرد بسوء التوافق الذاتي والذي يتمثل في الصراع بين الفرد وذاته , وعدم الرضا عن النفس , وبالشعور بالنقص أو الشعور بالعظمة , وقد يتأرجح بين احتقاره لذاته أحياناً, وبين تعظيمه لها أحياناً أخرى , فتارة ينبسط في سلوكه ويبدو في غاية البهجة وخاصة أمام أقرانه , وتارة أخرى ينزوي وينطوي على ذاته ويعاني من الشعور بالاكتئاب والوحدة وكراهيته لنفسه , مما قد يدفع البعض القليل للتفكير في الانتحار .ولعل أهم الظروف التي تساعد على تعقيد حالات غير الأسوياء , هي حالة عدم الاستقرار الاجتماعي الذي نعيش فيه , وعدم الإحساس بالأمان , وما تنقله الفضائيات من إثارات مبالغ فيها, والأزمات الاقتصادية الخانقة .إن من سمات المجتمع العصري الذي نعيشه الآن , السرعة والمادية , والتمتع لدرجة مبالغ فيها بأسباب الراحة التي أوجدتها التقنية الحديثة , ونشوء حالة خطيرة من كثرة الضوضاء والصراع والتنافس , لدرجة عدوان الأخ على أخيه وانتشار الجريمة والمخدرات والدعارة .... مما جعل المجتمع فاقداً لتوازنه وكيانه . كل هذا لم يحتمله الشباب خصوصاً غير الأسوياء فثاروا وتمردوا.كما يدمن هؤلاء المتمردين على سماع الموسيقى الصاخبة حتى الفجر والإدمان على الأغاني التي تحمل معاني غريبة , مشوهة , تدعو إلى ما يتنافى مع اللياقة والآداب العامة . وقد يبدو التمرد في سلوك ولغة الشاب , فنجد أحياناً الشاب الشرقي المتمرد , يتكلم بأسلوب غربي ويصطنع نغمات ونبرات في صوته ليست له , مما يجعله نشازا في البيئة , ويبدو مختلفاً في أسلوبه في الأخذ والعطاء , ويعلل ذلك بأن مجتمعنا متأخر ولابد أن يتمثل بالمجتمعات المتقدمة , ومن الطريف أن أمثال هؤلاء الشبان كثيراً ما يسلكون هذا السلوك وهم لا يجيدون اللغة الأجنبية التي يتشدقون ببعض ألفاظها , وقد يحاكي المتمرد أو المتمردة نجوم السينما الغربيين في طريقة كلامهم ولباسهم وحركاتهم .وقد يلجأ المتمرد إلى تعاطي المخدرات والخمر , وهي حالة متقدمة في صنوف التمرد , وهو بذلك إنما يغيب نفسه عن الوجود والمجتمع الذي لا يمكنه التوافق والتكيف معه , ويسعى إلى الانفصال عن العالم الذي يعيش فيه يصل أحياناً إلى النوم في الطريق العام أو التسكع حتى الصباح , متخذ سلوكاً لنفسه لا يتفق والعرف , وغير عابئ بمن حوله من الناس . وقد يلجأ المتمرد إلى التظاهر وادعاء العلم أو الفلسفة , فيقوم بشراء ما تصل إليه يده من كتب في علوم الطب مثلاً , وهو ليس بطالب طب , أو كتب الرأسمالية والشيوعية ويجاهر بأنه شيوعي أو رأسمالي ...
وهو في الواقع لا يفرق بين المذاهب السياسية والاقتصادية , كما أنه لا يجيد الكتب التي يشتريها ويخزنها أو يحملها للتعريف على نفسه , وعن انتمائه ناحية هذا المذهب أو ذاك , وقد يجاهر في كل مكان بدون مناسبة أنه " لا ديني " أو أنه " وجودي " ويشتري كتباً في الفلسفة أو الوجودية , وهو لم يفلح بعد في الحصول على الثانوية العامة , ويبرر حتى هذه فيقول " وما فائدة الشهادات , المهم الثقافة الشخصية " ويضرب أمثلة بذلك للاستشهاد فيذكر الكثيرين من الأجانب والعرب , الذين بلغوا مراتب كبيرة دون شهادة . إن مثل هذا السلوك هو في واقع الأمر وسيلة غير سوية لإثبات الذات, وقد يؤدي بصاحبه إلى الضياع أو إلى أن يصبح منبوذاً بين أفراد المجتمع , أو الانتهاء إلى مواطن لا يحمد عقباها .في الواقع إن الشباب المتمرد لا يشكل مشكلة اجتماعية ذات أهمية قصوى في أي مجتمع , ففي كل العصور والأزمان سيكون هناك شباب متمرد , فقد سبق أن وجدوا وسوف يوجدون , وفي كلتا الحالتين فإن عددهم وأثرهم لا يرقى لدرجة المشكلة , بل يمكن إدراج أسبابها تحت بند أسباب نفسية مرضية , يمكن في كثير من الحالات علاجها وإدارتها .
كما يتميز الشاب المتمرد بسوء التوافق المدرسي إن كان طالباً , أو سوء التكيف المهني إن كان عاملاً , وذلك لإخفاقه في التكيف للدراسة أو للعمل , وبسوء علاقاته الاجتماعية بأقران الدراسة أو بأساتذته أو بأقران العمل ورؤسائه . وقد لا يتصف المتمردون جميعاً بكل أنواع سوء التكيف , في وقت واحد , ولكن قد ينتقلون من عرض إلى آخر , ولكنهم يعانون جميعاً من الصراعات وعدم القدرة على التكيف لمواقف وضغوط الحياة , فيهربون من أعراض التمرد .
لاشك أن أسلوب التربية في الطفولة هو حجر الزاوية في تكييف الشاب نفسياً أو انحرافه وتمرده, ولكن هناك عوامل وظروف في حياتنا الحالية ساهمت لدرجة كبيرة في ثورة الشباب وتمرده . ولابد هنا للإشارة إلى الفرق الكبير بين ثورة الشباب السوي , وثورة الشباب غير السوي . فالأسوياء منهم ينتهجون الطرق التي يقرها المجتمع في الإعراب عن ثورتهم عن أي نظام أو سلوك أو قانون لا يروقهم , ولكن المتمردين ينهجون نهجاً آخر لا يتفق ومنطق الأسوياء , ويتخذ تمردهم صوراً كثيرة سأذكرها لاحقاً .
ويعاني بعض الشباب من الصراع الشديد بين الحرية التي يتطلبها والقيود التي يفرضها عليه المجتمع , خاصة بعد أن تضخم شعور الشباب بحقوقهم ومطالبهم . فالتمرد في طبيعة الحال ما هو إلا تعبير عن التضارب والتصادم بين القيم , وهروب من ضغوط مواقف الحياة لمن لا يتحملها , وهؤلاء هم من لم تؤهلهم نفوسهم في القدرة على التكيف الاجتماعي , ومن ثم فالتمرد ثورة وهروب , ثورة للفشل في التكيف , وهروب من توتر سوء التكيف .
يتخذ تمرد الشباب صوراً مختلفة تتميز كلها بأعراض سوء التكيف , وتتدرج هذه الأعراض من الانزواء والبعد عن الناس , إلى الاستعراض بكل الأساليب , ومنها ما هو استعراضي في المظهر واللباس , ومنها ما هو استعراضي ومبالغة في الميول والنزعات , وهذا كله يعني أن المتمرد يتكيف ويتلاءم مع متطلبات الحياة بأسلوب يختلف عن أساليب أغلب من هم في سنه وبيئته .
يهتم المتمرد بالظهور بشكل مخالف لما يجب أن يكون عليه في المظهر والشكل , من حيث الشعر – طوله وشكله – ومن حيث اللباس الضيق أو المزركش أو المزخرف , ومن حيث استعمال الأقراط والخرز والوشم في الجسم بالرغم من اعتراض والديه على ذلك , ورغم عدم استساغة كل معارفه وجيرانه لهذا السلوك , وهو لا يبالي ويجد لذة كبيرة كلما أبدى أحد اعتراضاً على مظهره ويجيب
" إنها موضة وأنا حر " أو " لقد كبرت ويجب أن ألبس كما يحلو لي وليس كما يحلو لأهلي والناس " أو " الحرية يا ناس... الحرية " وعندما يحاول أحد أن يناقشه أو ينصحه يثور ويقول " يا أخي شوفوا المجتمع المنافق ... روحوا صلحوه " أو " شو عم ساوي أنا شوفوا الجرائم والرشوة والفساد يلي منتشرين بالمجتمع ..." أو " شوفوا الأجانب وين صاروا وين صرنا...".
لو تركنا جانباً مظاهر وسمات وسلوك الشباب المتمرد التي لا تتوافق مع ما يرتضيه أغلب الشباب وأغلب أفراد المجتمع , فما الذي يدعي الشباب المتمرد بأنه يكافح من أجله ؟ يدعي الشاب المتمرد كما سبق وذكر , بأنه يكافح من أجل ما يسميه " الحرية الشخصية للفرد " , ويدعي بأنه يحاول أن يقدم للعالم شكلاً جديداً للمجتمع , مجتمعاً تتحقق فيه الحرية الفردية , لذلك فالمتمردون يعلنون بكل الوسائل أنهم أعداء للمجتمع القائم , ويدعون أنهم متحررون وأنهم يريدون تحقيق العدالة الاجتماعية , بل إلغاء العملات النقدية , وأنهم يناهضون الحرب , وينادون بالمحبة والإخاء والسلام . والسؤال الذي يفرض نفسه , هل دوافع هؤلاء المتمردون في معارضة ومقاومة ما يرونه مخالفاً لاتجاهاتهم هي دوافع شعورية أساسها المنطق , أم أنها دوافع لا شعورية غير منطقية ؟
إن العالم منذ القدم يناضل في سبيل الحرية السياسية والدينية والاقتصادية , وينادي باستمرار بالحب والسلام , فليس هناك من جديد في مزاعم الشباب المتمرد , ولم يقدم هؤلاء صورة جديدة لمجتمع تتحقق فيه الحرية والسلام والمحبة ادعوا أنها هدفهم , إنما قدموا لنا صوراً من حياة مضحكة بوهمية , لا تعنى مثلاً بالنظافة أو اللياقة صحياً أو اجتماعياً , بل أن الكثيرين منهم انتهت حياتهم في مراحل متقدمة من التمرد , إلى دخول المصحات النفسية والسجون , كما أن البعض أنهى حياته بالانتحار .