الفرح
غياب الفرح يعني غياب الله، الفرح هو برهانٌ على حضور الله. يبتهج الإنسان في العالم بالأمور العابرة، يفرح بالشهوات، بالفانيات والباطلات، ويحصل ربّما على متعةٍ ونشوةٍ ما عابرة، لكنّه
في الواقع، إذا ما تأملنا بإمعانٍ في حياته فسنرى الحزن والضيق، كما يقول الكتاب المقدَّس: "حزنٌ وضيقٌ على كلِّ نفسِ إنسانٍ يفعل الشرَّ". لا يمكن أن يوجد فرحٌ حيث يوجد تجاوزٌ لوصيّة
الله، كما إنّه مِنْ غير الممكن أن يوجد ضيقٌ حيث يوجد تطبيقٌ لناموس الله.
الفرح أمرٌ نادر الوجود لكنّه أيضاً ليس أمراً مستحيلاً، إنّه طبيعيٌّ. عندما يلتقي إنسانٌ أعمى بإنسانٍ يبصر، يصرخ نحوه قائلاً: "يا للعجب، أحقاً ترى!"، هكذا أيضاً يحصل عندما يرى الآخرون
إنساناً فرحاً يتعجّبون ويتساءلون: "أحقّاً أنت فرحٌ؟"، لأنّهم اعتادوا أن يعيشوا في الانحطاط، في الكذب، في الخطيئة، في ظلمة الضمير الباطنيّ للوجود الإنسانيّ، ناكرين الله في حياتهم اليومية.
ليس الفرح أمراً غريباً بل هو الأمر الطبيعي والمساعد في الحياة الروحيّة.
لنرَ ماذا يقول آباء كنيستنا عن الفرح، ولنبدأ مع القديس أثناسيوس الكبير في عظته حول البتولية التي وجهها بشكلٍ خاص إلى المتبتلين، يقول: "لا تحزن لمصيبةٍ ما تحدثُ لك، ولا لخسارةٍ ولا
لشتيمةٍ. حزن العالم هذا ينشىء موتاً". لا تحزن لأمرٍ مفجعٍ أو سيّئٍ، لأمر مؤذٍ يمكن أن يصيبك في حياتك هذه. وأيضاً حتى لو أصابتك خسارةٌ ما أو إن قابلك أحدٌ بطريقةٍ سيئةٍ، أنانيةٍ، وإن
شتمك أو أهانك فلا تحزن أيضاً. لأنّ "كلَّ حزن العالم هذا يعمل للموت". كلُّ حزنٍ لأيِّ سببٍ كان هو أداةٌ للموت.
عندها يتولَّد لدينا السؤال الطبيعيُّ: لأيِّ سبب إذاً يمكن أن يحزن الإنسان؟ يفسّر القديس أثناسيوس الكبير ذلك بقوله: "احزن فقط على خطاياك". كذلك القدّيس يوحنا الذهبي الفم يقول: "الشيء
المؤذي والموجود في العالم هو الخطيئة". فقط احزن على خطيئتك، الخطيئة تشمل جوانب الحزن الأخرى كلها. لكن هذا الحزن لا يجب أن يكون بسبب أنّي أخطأت وسقطت وكبريائي لا يقبل
هذه السقطة وإنما فيه معنى التوبة والحزن بسبب تعدي الوصية وخوف الله.
فالضغط والضيق والقلق والغمّ من أجل الخطيئة ليس هو حزنٌ بحسب الله لكنّه حزنٌ بحسب العالم. إنّه نظرةٌ للحياة تسودها الفرديّة، انفصالٌ عن إرادة الله، أمرٌ مُحبط. لايقول عن هذا الأمر
هنا، بل على الحزن الروحي البهي الذي ترافقه التوبة. بالتالي، كلُّ سبب تحزن لأجله وتعاني منه الضيق والقلق، يُعتبر أمراً تافهاًً لأنه يشدُّك ويبعدك عن الله.
يقول القديس باسيليوس الكبير أيضاً: إنّ "كلَّ نفسٍ، ارتبطت للأبد بشوق الخالق وبالجمال المعتاد هناك، تبتهج، وهذه البهجة والفرح لا يتبدّلان تحت تأثير مختلف المصائب الحاصلة بعد
السقوط". عندما تتذوَّق النفس الشوق إلى الخالق، عندها لا تضطرب ولا تتضايق من الأمور الخارجيّة، لأنّ ما له أهميّةٌ يصبح بالنسبة لها هو الجمال الروحيّ والحياة الروحيّة وتذوق حلاوة
المسيح. لا تلغي المصائبُ الجسديّةُ الحاصلةُ فيما بعد السقوط فرحَ النفس. يعني أنَّ حياة الجسد وأهواءنا التي تسيطر علينا وتذلّلنا تقدر أن ترمينا في حياةٍ غير معقولةٍ وتافهةٍ سطحيةٍ وأحياناً
أيضاً خاطئةٍ، إلا أنّها لا تبدّل ولا تُلغي الفرح. فلا شيء يستطيع أن يغيّر الفرح والبهجة في قلبنا. لا الأمور الطوعيّة ولا الإجباريّة التي تحدث في طبيعتنا وفي عالمنا النفسيّ، فالراهب هو
إنسانٌ مسرورٌ دوماً.
"وما يعتبره البعض ضيقاتٍ يجعل منه الآخرون فرحاً أكثر". كلّ ما يعتبره الآخرون مصائب جسديةً للإنسان، إنما يكون للنفس التي تلتهب بشوق الرب أموراً صغيرةً جداً وغير هامة، والنفس
تنتصر عليها وتُحرز بالأكثر "سروراً أعظم". إنّ الأمور التي تحدث في عالمنا النفسيّ لا نستطيع أن نتحملها ونكابدها بينما النفس المستكينة بالربّ تتعرَّف عليها، تفهمها، تفسِّرها، تقبلها وتدرك
من خلالها محبّة الله، لذلك تتجاوزها وتحقِّق رصيداً أكبر من الفرح. لذلك أقول لكم، عندما ترون إنساناً مغموماً، متضايقاً، مقطّب الوجه، أيقنوا في الحال أنّه قد هجر الربّ إلهه. لكن يمكن أن
يعترض أحدكم بقوله، ألم يقل بولس الرسول إنَّه يجب أن نبكي "مع الباكين". فعلى سبيل المثال، تصاب أختك بأمرٍ ما وتتضايق أنت. تخطئ أختك، يخطئ أخوك وتتضايق أنت. إنَّ هذا لمبرَّرٌ!
إنَّ بولس الرسول يسامح أولئك "الباكين مع الباكين، لأنّ هذا الدمع يصير عربوناً للفرح الأبديّ"، كما يقول القدّيس باسيليوس الكبير.