نسجد لآلامك أيّها المسيح، فأرنا قيامتك المجيدة.
آلام المسيح أبعد وأعمق من الوجع الحسّيّ، إنّها الآلام الّتي رفعت معاناة الإنسانيّة كلّها وحرّرتها من ظلمتها الّتي تمنعها باستمرار من معاينة مجد الله. هي شعلة الحبّ الكامل الّتي أضرمها الله في نفوسنا فنزعت عنّا إنساننا العتيق وحوّلته إلى إنسان جديد بيسوع المسيح. إنّها ماء السّماء الّذي تفجّر من علٍ وانسكب في كياننا وروى أرضنا الجدباء، فأزهر ربيع أبديّ تتجدّد فيه نفوسنا كلّ حين. لذا ونحن نتأمّل آلام السّيّد المقدّسة علينا أن نتطلّع بفرح عظيم إلى هذا الحبّ الإلهيّ المتّقد ونسبر غوره فنفهم أكثر منطق المسيح وبالتّالي منطق المحبّة الّتي أوصانا بها.
التّأمّل بآلام السّيّد لا يكون للحزن والبكاء والتّأثّر العاطفيّ، وإنّما لمحاكاة الحبّ الإلهيّ وإدراك فعله فينا. فالمسيح لم يقبل الآلام والموت طوعاً ليشعرنا بالذّنب بل ليهبنا الفرح الّذي لا يمكن لأحد أن يأخذه منّا. هذا الفرح المرتبط بتحرّرنا من عبوديّة الخطيئة. الخطيئة أرض العبوديّة، مدينة الشّقاء، حيث يستعبدنا كبرياؤنا وتعالينا فيبعدنا عن المحبّة الإلهيّة ويدخلنا عالم الموت. وأمّا آلام المسيح فنزعت عنّا عار الكبرياء وشقّت أمامنا بحر العالم الفاني حتّى نعبر إلى مدينة الله.
" جئت لتكون لهم الحياة، بل ملء الحياة." يقول السّيّد في ( يو 10:10). والمقصود بملء الحياة أن نحيا في هذا العالم ونقتنع أنّه مرحلة من الأبديّة، فنثور على أنفسنا ونتخلّى عن كلّ ما يمكن أن يتحكّم بها فتكون حرّة طليقة لا تقيّدها خطيئة ولا تأسرها هموم وأحزان. " حياتي هي المسيح" يقول بولس الرّسول، تلك الحياة الحقيقيّة المرادة لنا من الله. حياتنا الدّاخليّة، المخدع الّذي طلب منّا الرّب أن ندخله ونصلّي فيه لأبينا السّماوي. هي الأنا الّتي نلتهي عنها بأمور الحياة الفانية، وننهك قواها بصخب العالم فلا نعود ونسمع صوت الله فينا.
حياتنا الأرضيّة ملأى بالهموم والأحزان والاضّطرابات والأوجاع، وهذا أمر طبيعيّ، لأنّنا نحيا في عالم يخضع للنّقص. والمسيح نفسه اختبر هذه الهموم ونفسه حزنت وتوجّعت واختبر الألم الحسّيّ وعندما نلتجئ إليه في أوقات الشّدة والضّيق يفهمنا ويعزّي قلوبنا ويحوّل كلّ ما يؤلمنا إلى ما هو خير لنا. ولكن ما منحنا إيّاه المسيح بآلامه المحيية، هو أن لا نقع في أفخاخ أوجاع نفوسنا ونستسلم لها فنهجر ملء الحياة ونصبح جثثاً تتنفّس معتقدة أنّها تحيا.
مبارك أنت يا مسيحنا الحبيب، يا من أعتقنا من ظلمة نفوسنا وخلقنا من جديد فأبعد عنّا سلطان الموت. مبارك أنت يا ملكاً ارتفع على صليب الحبّ فأغدق علينا غفراناً وسلاماً. مبارك أنت يا إلهنا، يا من سمع صراخ نفوسنا فنزل إلينا ليخلّصنا. أنت المسبّح والممجّد كلّ حين، نسجد لآلامك المقدّسة، فأرنا قيامتك المجيدة.