الثالوث القدوس
(عرض مبسَّط)
يُعَدّ هذا الموضوع من الموضوعات الهامة سواءً من جهة الإيمان أو الممارسة، فهو ليس مجرّد "ترف فكري" أو سفسطة ولكنه صُلب المسيحية، ولذلك فإنه من الأمور التي يتوقّف عندها طويلاً كل من يتعلّق بالمسيح ويرغب في أن يكون مسيحيًا.
والثالوث ليس اختراعًا بشريًا أو استنتاجًا للآباء أو العلماء المسيحيين، بحيث يمكن التفاهم فيه والمساومة حول رقمه! ولكنه حقيقة إلهية أعلنها الله لنا. فعندما أرسل السيد المسيح تلاميذه للكرازة قال لهم: «فاذهَبوا وتلمِذوا جميعَ الأُمَمِ وعَمِّدوهُمْ باسمِ الآبِ والِابنِ والرّوحِ القُدُسِ» (متى 28: 19). ولأننا محدودون فإننا نفهم فقط القليل عن الله: «ليس أحَدٌ يَعرِفُ الابنَ إلا الآبُ، ولا أحَدٌ يَعرِفُ الآبَ إلا الابنُ ومَنْ أرادَ الابنُ أنْ يُعلِنَ لهُ» (متى11: 27)، أي أننا نعرف ما يعلنه لنا الله فقط.
ولكي نفهم علينا أن ننسحق ونخضع أمام الثالوث لكي نستوعبه، لذلك يُصرِّح السيد المسيح قائلاً: «أحمَدُكَ أيُّها الآبُ رَبُّ السماءِ والأرضِ، لأنَّكَ أخفَيتَ هذِهِ عن الحُكَماءِ والفُهَماءِ وأعلَنتَها للأطفالِ» (متى11: 25)، وهذا يعني أن الحقائق الإيمانية يمكن حتى للأطفال استيعابها، بشرط الطفولة الروحية، في حين قد تستعصي على العقلانيين والتجريديين. وترد قصة عن القديس أغسطينوس أنه بينما كان يذرع الطريق ذهابًا وإيابًا متفكِّرًا في أمر الثالوث، شاهد صبيًا صغيرًا بجوار البحر وقد صنع حفرة صغيرة في الرمال، وراح يأخذ من ماء البحر ويصبّ فيها، فلما سأله عمّا يفعل، أجابه الصبي بأنه قد قرّر أن ينقل البحر إلى تلك الحفرة! وهنا هتف القديس بأن هذا مستحيل! وعندئذ قال الصبى: "وأنت كيف تحاول فهم كل شيء عن الثالوث"!
ونظرًا لأهمية العقيدة فإن السيد المسيح نفسه قد اهتم بشرحها كثيرًا، فقد راح يشرح شرحًا مطولاً لنيقوديموس عن الولادة الجديدة من الماء والروح (يوحنا 3)، وشرح كذلك للصدوقيين طبيعة قيامة الأموات (متى 22)، وشرح للسامرية العبادة الصحيحة والسجود للآب بالروح والحق (يوحنا 4)، وشرح الإفخارستيا (يوحنا 6) وغيرها، إذ أن العقيدة هى ما تنعقد عليه الحياة، وما يعتقده الإنسان يبني عليه حياته وسلوكه وانتماءاته.
وعلينا أن نلاحظ أن الكثير من الشُرّاح ركّزوا على إثبات الوحدانية، والقليل منهم الذين شرحوا الثالوث، لدرجة أن البعض قد يقع في بدعة سابليوس (السابلية)، و سابليوس هذا رأى أن الله ظهر في شكل الآب في العهد القديم، ثم الابن المتجسد في العهد الجديد، ثم الروح القدس بعد صعود السيد المسيح. ولكن الأقانيم أزلية، ولها نفس الجوهر، ولكنها متمايزة من حيث الصفات الأقنومية.
والآن ندرس معًا عقيدة الثالوث ببساطة من خلال أربع نقاط:
1- الثالوث في العهدين القديم والجديد.
2- تمايز الأقانيم
3- الخواص الأقنومية.
4- علاقتنا بالثالوث.
+ + +
أولاً: الثالوث في الكتاب المقدس:
قلنا أننا نخضع لما يعلنه الله لنا، وبخصوص الثالوث فإن الإعلان الإلهى كان متدرِّجًا، مثل مدرِّس يترفّق بتلميذه فيقدّم له من العلم ما يقدر على استيعابه في البداية، ثم يتدرّج معه حتى يبلغ من الرشد قدرًا يسمح له باستيعاب الحقائق الكبيرة.
وفي القديم كان شعب الله مهدَّدًا عقائديًا من الأمم الوثنية المحيطة به والتى تؤمن بتعدّد الآلهة، ولأنهم كانوا مبتدئين فقد يفهمون الثالوث على أنه تعدّد آلهة، فركّز الله معهم على الوحدانية: «اِسمَعْ يا إسرائيلُ: الرَّبُّ إلَهنا رَبٌّ واحِدٌ» (تثنية 6: 4)، ومن هذا الجزء في الشريعة اُقتُبِس في قانون الإيمان اليهودي والذى يُسمّى: "الشيما" (من اسمع بالعبري)، ويماثله قانون الإيمان الأرثوذكسي: "بالحقيقة نؤمن بإله واحد"، غير أن الفرق بين القانونين هو أن قانون الإيمان المسيحي يشرح الثالوث ويركّز على الأقانيم مثلما يركّز على الجوهر والطبيعة.
ومع ذلك فإن الثالوث موجود في العهد القديم منذ البداية، بل في أول آية في سفر التكوين: «في البَدءِ خَلَقَ اللهُ السماواتِ والأرضَ... وروحُ اللهِ يَرِفُّ علَى وجهِ المياهِ. وقالَ اللهُ: "ليَكُنْ نورٌ"، فكانَ نورٌ» (تكوين 1: 1-3)؛ وهكذا تشير الآية إلى الآب والروح القدس والابن (حيث أن «قال الله» يُقصَد بها أقنوم الابن "النطق الإلهي – اللوغوس").
هذا بالإضافة إلى مواضع كثيرة ذُكِر فيها الثالوث مثل: "«وقالَ اللهُ:"نَعمَلُ الإنسانَ علَى صورَتِنا كشَبَهِنا"» (تكوين 1: 26) حيث يتّضح الثالوث من الكلمات: نعمل – صورتنا – شبهنا (لم يعرف الأدب العبري الكلام بصيغة الجمع للتعظيم). وعند بلبلة الألسنة قال الرب: «هَلُمَّ نَنزِلْ ونُبَلبِلْ هناكَ لسانَهُمْ» (تكوين 11: 7)، ويتّضح الثالوث هنا ليس فقط من خلال صيغة الجمع (ننزل – نبلبل)، ولكن من خلال الحوار بين الثالوث: «هَلُمَّ». وفي سفر المزامير يقول داود النبي: «قالَ الرَّبُّ لرَبِّي:"اجلِسْ عن يَميني حتَّى أضَعَ أعداءَكَ مَوْطِئًا لقَدَمَيكَ"» (مزمور 110: 1)، وهو حوار بين أقنوم الآب وأقنوم الابن، ولمّا اطّلع اليهود في القرن الأول الميلادي على هذا التفسير المسيحي أرادوا خلط الحقائق فقالوا إن المقصود هو: "قال الرب لسيدي الملك داود!"، بالرغم من أن السيد المسيح نفسه أكد على أن المزمور يشير للاهوته: « سألهُمْ يَسوعُ قائلاً: "ماذا تظُنّونَ في المَسيحِ؟ ابنُ مَنْ هو؟". قالوا لهُ: "ابنُ داوُدَ". قالَ لهُمْ: "فكيفَ يَدعوهُ داوُدُ بالرّوحِ رَبًّا؟ قائلاً: قالَ الرَّبُّ لرَبِّي: اجلِسْ عن يَميني حتَّى أضَعَ أعداءَكَ مَوْطِئًا لقَدَمَيكَ. فإنْ كانَ داوُدُ يَدعوهُ رَبًّا، فكيفَ يكونُ ابنَهُ؟"» (متى 22: 41-45، لوقا 20: 41-44). وعن أقنوم الروح القدس يرد في سفر المزامير أيضًا: «يارَبُّ... أينَ أذهَبُ مِنْ روحِكَ؟ ومِنْ وجهِكَ أين أهرُبُ؟» (مزمور 139: 1، 7)، وهنا إشارة إلى الأقانيم الثلاثة: يارب (الآب) – روحك – وجهك (الابن، لأن الابن هو صورة الآب «بَهاءُ مَجدِهِ، ورَسمُ جَوْهَرِهِ» عبرانيين 1: 3). وغيرها كثير جدًا.
وهكذا استنار العقل اليهودي قليلاً قليلاً، وبعد سبي بابل اتسع أُفُقة اللاهوتي أكثر من ذي قبل، وتدرّج الله معهم حتى أصبح الذهن البشري مستعدًّا لهذا الإعلان الإلهى عن الثالوث. فعند التجسد، وبالتحديد عند المعمودية، ظهر الثالوث القدوس معًا: الآب في صوت آية من السماء، والابن في الماء خاضع ليكمل كل برّ، والروح القدس حالاًّ في شكل حمامة، وكانت هذه هى المرّة الأولى التي نرى فيهما الثالوث واضحًا، بعد أن كان مختبئًا في العهد القديم. وتحدث السيد المسيح عن الثالوث وعلاقة الأقانيم كثيرًا، ففي حديثه مع السامرية قال لها: «ولكن تأتي ساعَةٌ، وهي الآنَ، حينَ السّاجِدونَ الحَقيقيّونَ يَسجُدونَ للآبِ بالرّوحِ والحَقِّ» (يوحنا 4: 23)، فهوذا المسيح أقنوم الابن يتحدّث، والآب يُسجَد له، والروح يعيننا في العبادة (السجود). وآية أخرى يعلن فيها السيد المسيح عن الثالوث القدوس قائلاً: «وأمّا المُعَزِّي، الرّوحُ القُدُسُ، الذي سيُرسِلُهُ الآبُ باسمي، فهو يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيءٍ، ويُذَكِّرُكُمْ بكُلِّ ما قُلتُهُ لكُمْ» (يوحنا 26:14).
ومنذ العصر الرسولي، وفي كتابات القديس بولس، وصار التعليم بالثالوث والصلاة له والحديث عنه لاينقطع، فيبدأ أو يختم رسائله بالتحية الثالوثية: «نِعمَةُ رَبِّنا يَسوعَ المَسيحِ، ومَحَبَّةُ اللهِ، وشَرِكَةُ الرّوحِ القُدُسِ مع جميعِكُمْ. آمينَ» (كورنثوس الثانية 13: 14) وغيرها كثير (لاحظ أن هذه الآية هي البركة الختامية في كل صلوات الكنيسة، وهي التحية الافتتاحية في القداس الغريغوري، وذلك عملاً بقول الرب: «فيَجعَلونَ اسمي علَى بَني إسرائيلَ، وأنا أُبارِكُهُمْ» عدد 6: 27). كما يقول القديس يوحنا: «بهذا نَعرِفُ أنَّنا نَثبُتُ فيهِ وهو فينا: أنَّهُ قد أعطانا مِنْ روحِهِ. ونَحنُ قد نَظَرنا ونَشهَدُ أنَّ الآبَ قد أرسَلَ الابنَ مُخَلِّصًا للعالَمِ. مَنِ اعتَرَفَ أنَّ يَسوعَ هو ابنُ اللهِ، فاللهُ يَثبُتُ فيهِ وهو في اللهِ.» (يوحنا الأولى 4: 13-15).
وهكذا صرنا نرشم ذواتنا بالثالوث القدوس، ونبدأ به صلواتنا، ونصلّيه بالألحان، وننال مفاعيله في الأسرار، فلا تتمّ صلاة ولا يتم سرٌّ إلاّ من خلال الرشم الثالوثي، ففي المعمودية على وجه الخصوص كان الكاهن يسأل الموعوظ: :أتؤمن بالله الآب ضابط الكل؟"، فيجيب ذلك: "أؤمن"، وعندئذ يغطّسه مرة واحدة في الماء، ويتكرّر ذلك مع إعلان إيمانه بالابن والروح القدس، وهكذا بقية الأسرار. وفي مجمع نيقية تقرّرت صيغة الإيمان الثالوثي محدَّده بعبارات معتمدة كنسيًا على الأصول الكتابية.
+ + +
ثانيًا: تمايز الأقانيم:
الله واحد مُثلّث الأقانيم، مثلما نؤمن بالوحدانية نؤمن بالثالوث،
لايكفي الحديث عن أن الثالوث واحد، ولكن علينا الحديث عن أن الواحد ثالوث أيضًا،
لئلا يتحرّج منها أحد فيركّز في الرشم على الإله الواحد فقط.
فإذا لم نثبت أن الأقانيم الثلاثة لها جوهر واحد مع تمايزها من جهة الصفات الأقنومية،
نكون بذلك ننادي بتعدد الآلهة، وإذا لم نؤكد أن الله الواحد هو ثالوث نكون بذلك نتكلم عن صنم؛
ولكن الله موجود ويتكلم وحيٌّ. فالوجود أو الأصل هو “الآب”، والكلام هو “اللوغوس” أو “كلمة الله”،
و“الروح القدس” هو الحياة، ونرتل في صوم الرسل: “ثالوث في واحد،
وواحد في ثالوث. الآب والابن والروح القدس”.
ويمكن شرح فكرة الثالوث من خلال المثلّث (وهى فكرة صالحة لشرح الثالوث)
: نتصوّر هذا المثلّث أنه مثلث واحد بثلاث زوايا متساوية، فهو واحد،
وهو ثلاثة، وكل رأس متميّز عن الرأس الآخر.
ج
ب
أ
الرأس الأول (أ) الآب
الرأس الثاني (ب) الابن
الرأس الثالث (ج) الروح القدس، وهذا غير ذاك غير الثالث.
فإذا كان (أ) هو (ب) تحوّل المثلّث إلى خط مستقيم، وبالتالي يفقد كيانه ووجوده،
لأن الخط المستقيم ليس له مساحة، والأصعب من ذلك أن يكون (أ) هو (ب) هو (ج)
فينعدم المثلث كله ويصبح نقطة! فأين الله إذًا؟
فليس الآب هو الابن، ولكن الآب أقنوم والابن أقنوم آخر، والروح القدس أقنوم آخر،
والثلاثة واحد في الجوهر (اللاهوت)، فإذا كان المثلث ذهبًا فإن (أ) ذهب و(ب) ذهب و(ج) ذهب،
فالثلاثة قطعة ذهب واحدة، لأنهم في اتحاد كامل دون انفصال، ولا تمايز من جهة نوع الذهب فهو قطعة
واحدة، جوهر واحد دون تفاوت في القيمة والأهمية والعظمة.
كما أن (أ) ليست نقطة بل زاوية، ومساحة الزاوية = مساحة المثلث كله، وهكذا (ب) و(ج)،
وبالتالي يكون الوصف هو: الآب في الابن، والابن في الآب والروح القدس، لانخلط بينهم وإن كانوا واحدًا.
فماذا حدث عند التجسد؟
إذا دققنا مسمارًا في الرأس (ب) فيصبح في الرأس (ب) مسمار حديدي،
ولكن هل المسمار في (أ) أو (ج)؟ كلاّ، ولكن (أ) و(ج) واحد متّحديْن مع المسمار،
فاللاهوت اتّحد بالناسوت في المسيح فقط: الرأس (ب)،
وبالتالي لا أستطيع القول بأن الآب تجسّد ولا الروح القدس، ولكن تجسّد الابن..
إذا قلنا أن (ب) اتحد بالمسمار فهل انفصل عن (أ) و(ج)؟
هكذا فإن الآب والابن والروح القدس متحدين، ولكن الناسوت اتحد بالابن،
إذًا ما نأكله على المذبح هو جسد الابن وليس الآب،
لأن الآب لم يتجسد، والآب لم يُصلَب، ولكن الابن لم ينفصل عن الآب.
الرأس (ب) يتألّم، فهل تألّم الاثنان الآخران؟ كلاّ، ولكن الابن فقط لأنه هو الذى تجسّد،
لأن الجسد الذى أخذه الابن قابل للألم، بعكس الآب والروح القدس.
هل مات الآب من أجلنا؟: لا.
هل مات الروح القدس من أجلنا؟: لا.
هل مات الابن من أجلنا؟: نعم.
ولكن هل انفصل عنهم؟ لا.
هناك فروق بينهم ولكنهم واحد في الجوهر.
الاقانيم الثلاثة لهم نفس الصفات متحدين ومشتركين فيها.
الخالق: هو الآب والابن والروح القدس.
الفادي: هو الآب والابن والروح القدس.
الضابط الكل: هو الآب والابن والروح القدس.
القدوس: هو الآب والابن والروح القدس.
الرحيم: هو الآب والابن والروح القدس.
فالآب والابن والروح القدس: خالق، فادٍ، ضابط الكل، قدوس، محب، رحيم.
مثال آخر: وهو الإنسان نفسه: فهو مكوَّن من ثلاثة عناصر: الروح والنفس والجسد،
هذا غير ذاك غير ذلك، ومع ذلك إذا خرجت روح إنسان فإننا نقول: "فلان مات"،
وإذا ذُبِح جسده فنقول:"فلان مات" وإذا تمرّرت نفسه نقول: "فلان مكتئب"، وهكذا.
إنه يأكل بجسده، ولكن هل يأكل شخص بدون روح؟ أو يحل مسألة بعقله، فهل يحلها بدون روح؟
ومثل الشمس: والتي هى عبارة عن قرص وشعاع ضوء وحرارة،
تدخل أشعتها إلى حجرتك فتقول إن الشمس دخلت وليس شعاعها،
وإذا شعرت بحرارتها تقول: الشمس حارة..
وعندما تنظر جهة قرص الشمس في السماء تقول: هوذا الشمس، وهكذا،
بالرغم من أن قرصها غير ضوئها غير حرارتها، ونحن لا نلمس القرص ذاته،
بل من الخطر الاقتراب منه، ولكن ضوءه وحرارته دلاّنا عليه،
فنوقن أن هناك كتلة ضخمة من الهيدروجين تُسمّى الشمس!!
هكذا الابن وُلِد من الآب، وهو الذى رأيناه،
ومع ذلك لم تنقص كرامته مثلما لم تنقص كرامة شعاع الشمس عن الشمس ذاتها،
فالابن هو الله الذى ظهر في الجسد.
+ + +
ثالثًا: الصفات الأقنومية:
لماذا أطلقنا على الآب آبًا؟ والابن كذلك؟ والروح القدس؟