المعرفة الروحية
**********
نوعان من المعرفة
بعد هذه المقدمة البسيطة أحب أن أقول أنه هناك نوعان من المعرفة:
النوع الأول: معرفة العقل أى معرفة الحواس والإدراك المحدود، لأن دائرة العقل دائرة ضيقة. إنها معرفة الفطنة والذكاء والمعرفة العقلية القاصرة بعض الشيء.
النوع الثانى: المعرفة الحقيقية وهى المعرفة الروحية.
المعرفة العقلية موجوده عند الشيطان أيضاً كما قال القديس يعقوب "وَالشَّيَاطِينُ يُؤْمِنُونَ وَيَقْشَعِرُّونَ" (أى أنهم يعرفون) (يع 2: 19). فالإيمان هنا ليس هو الإيمان العامل إنما الإيمان بمعنى المعرفة العقلية والمعرفة الذهنية. لأن الشيطان يصدق أن الله موجود ويقشعر لكنه لم ينتفع من هذه المعرفة.
فكر الآباء عن المعرفة الروحية:
يؤكد القديس باسيليوس الكبير موضوع المعرفة العقلية بقوله: {لقد أضعت وقتاً فى الباطل وعكفت على تعلم حكمة باطلة هى الحكمة البشرية إلى أن آتى يوم وكأنى أفقت فيه من سُباتى إذ نظرت إلى نور الحقيقة الساطع فى الإنجيل ورأيت بطلان حكمة المعرفة العقلية البشرية التى إلى زوال}. ولذلك قال معلمنا بولس الرسول "لَكِنَّنَا نَتَكَلَّمُ بِحِكْمَةٍ بَيْنَ الْكَامِلِينَ وَلَكِنْ بِحِكْمَةٍ لَيْسَتْ مِنْ هَذَا الدَّهْرِ وَلاَ مِنْ عُظَمَاءِ هَذَا الدَّهْرِ الَّذِينَ يُبْطَلُونَ" (1كو 2:6). أى أنها حكمة علوية وحكمة روحية وحكمة حقيقية من الله ومن كشف الروح القدس للإنسان.
ينصحنا القديس يوحنا ذهبى الفم بقوله {لا تقدر السير فى طريق الله ما لم تحملك أجنحة الروح}.
هذه هى المعرفة الروحية.. وهى المعرفة التى نستطيع بها أن نعرف عن أموراً الله من خلال حياتنا مع الله، ونستطيع أن نعرف المعرفة العملية الروحية التى تشبع النفس. هناك خطورة وهى أن يقف الإنسان عند حد المعرفة العقلية. فى هذه المعرفة العقلية يحب الناس دائماً أن يعرفوا ما هو جديد. بلا شك أن المعرفة العقلية هى بداية أو منفذ. فالعقل منفذ بمعنى أن الروح من الممكن من خلال العقل أن تدرك أو تعبّر. إننا بشر، ويجب أن يعمل عقلنا، لكن بشرط أن يكون خاضعاً للروح، والروح من خلال العقل تكشف أمور. بلا شك أن الروح لها إمكانيتها الخاصة وهى غير الإمكانيات الجسدية، ولكن العقل له دور.
فكيف تغير القديس أغسطينوس؟ قرأ ثلاثة آيات من رسالة معلمنا بولس الرسول إلى أهل رومية الأصحاح 12، عندما قال معلمنا القديس بولس "فَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ بِرَأْفَةِ اللهِ أَنْ تُقَدِّمُوا أَجْسَادَكُمْ ذَبِيحَةً حَيَّةً مُقَدَّسَةً مَرْضِيَّةً عِنْدَ اللهِ عِبَادَتَكُمُ الْعَقْلِيَّةَ". ومن المعروف أن القديس أغسطينوس كان له شأن فى العلم وفى الفلسفة البشرية، فجلس يفكر فى هذه الكلمات وأدرك أن كلام الإنجيل أعمق كثيراً جداً من كل ما كان يعرفه. هنا وابتدأ يتذوق قبس من المعرفة الروحية.
فأنهى علاقته السيئة مع المرأة الشريرة، وكان له ابن زنى يبلغ من العمر إحدى عشرة سنة... فبدأ فى غلق هذا الباب تماماً. وعندما جاءت إليه هذه المرأة طارقة بابه أجابها: إن أغسطينوس قد مات. فقالت له لكنى أسمع صوت أغسطينوس.. فقال لها ولكن ليس قلب أغسطينوس.. وبدأ يدخل فى المعرفة الروحية والعلاقة الروحية مع الله. ثم تعمد القديس أغسطينوس وصار مسيحياً ثم ترهب وصار أسقفاً مباركاً فى لمدينة هيبوا فى شمال أفريقيا فى الجزائر.
لذلك فإن الصوم هو فرصة للإنسان لكى يدخل فى هذه المعرفة الروحية الاختبارية من خلال العبادة، مثل القداسات والتسابيح والصلوات، فتنكشف المعرفة أمام الإنسان، وأجنحة الروح تحمله، كما قيل عن السيد المسيح وهو صائم أربعين يوماً نهاراً وليلاً أنه "َكَانَ يُقْتَادُ بِالرُّوحِ فِي الْبَرِّيَّةِ أَرْبَعِينَ يَوْماً" (لو4: 1، 2).
الذين ينشغلون بالمعرفة العقلية فقط من الممكن أن يسقطوا فى الهرطقة.
يقول القديس جيروم {الهرطوقى الكاذب يقتل نفوساً كثيرة بخداعه إياها بمعرفة خاطئة أنه مخادع ومتعطش للدماء}. القديس جيروم هنا اعتبر أن الهرطوقى قاتل لأنه يهلك أناساً بهرطقته. ولذلك فإن العقل وحده من الممكن أن ينحرف، لكن الروح بقيادة عمل الروح القدس تضبط العقل فى سياق روحى سليم. لذلك يقول معلمنا القديس بولس الرسول فى رسالة رومية "لأَنَّ كُلَّ الَّذِينَ يَنْقَادُونَ بِرُوحِ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمْ أَبْنَاءُ اللهِ" (رو8: 15). ولذلك أضاً السيد المسيح عندما تحدث مع الناموسيين قال "وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا النَّامُوسِيُّونَ لأَنَّكُمْ أَخَذْتُمْ مِفْتَاحَ الْمَعْرِفَةِ. مَا دَخَلْتُمْ أَنْتُمْ وَالدَّاخِلُونَ مَنَعْتُمُوهُمْ" (لو11: 52). وسبب الويل أنهم أكتفوا بالمعرفة العقلية للناموس، وليست المعرفة الروحية التى يوجد نجد بها الخبرة الحية التى تجعل الإنسان يحيا ما يقرأه وما يعرفه.
ولذلك يقول القديس كيرلس الكبير {من يأخذ مفتاح المعرفة أى حفظ الناموس لابد أن يؤمن بالمسيح المخلص للعالم لكى يدخل إلى شركة الروح}. هنا نرى فعل حياة الإنسان مع ربنا يسوع المسيح له المجد.
ويقول اشعياء النبى "إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا فَلاَ تَأْمَنُوا" (اش 7: 9). أى أن الفهم الروحى مرتبط بالإيمان. وهذه هى المعرفة الروحية، وليس المعرفة العقلية فقط. ويقول أيضاً "لِذَلِكَ سُبِيَ شَعْبِي لِعَدَمِ الْمَعْرِفَةِ وَتَصِيرُ شُرَفَاؤُهُ رِجَالَ جُوعٍ وَعَامَّتُهُ يَابِسِينَ مِنَ الْعَطَشِ" (اش 5: 13). وهو هنا أيضاً يقصد المعرفة الروحية وليس المعرفة العقلية فقط.
إن معرفة الروح تكون عن طريق عمل الروح القدس. بمعنى أننا نعرف الله من خلال عمل الله فينا. كما قال معلمنا بولس الرسول فى رسالته لأهل كولوسى "لَبِسْتُمُ الْجَدِيدَ الَّذِي يَتَجَدَّدُ لِلْمَعْرِفَةِ حَسَبَ صُورَةِ خَالِقِهِ" (كو3: 10)، وأيضاً فى رسالته الثانية لأهل كورنثوس يقول "لأَنَّ اللهَ الَّذِي قَالَ أَنْ يُشْرِقَ نُورٌ مِنْ ظُلْمَةٍ، هُوَ الَّذِي أَشْرَقَ فِي قُلُوبِنَا، لإِنَارَةِ مَعْرِفَةِ مَجْدِ اللهِ فِي وَجْهِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ (2كو4: 6). ويقول أيضاً "مِنْ أجْلِ ذَلِكَ نَحْنُ أيْضاً، مُنْذُ يَوْمَ سَمِعْنَا، لَمْ نَزَلْ مُصَلِّينَ وَطَالِبِينَ لأَجْلِكُمْ انْ تَمْتَلِئُوا مِنْ مَعْرِفَةِ مَشِيئَتِهِ، فِي كُلِّ حِكْمَةٍ وَفَهْمٍ رُوحِيٍّ" (كو 1: 9).
يحاول البعض أن يعرفوا مشيئة الله ولكنهم لا يستطيعون، وذلك لأنه ليس لهم عمق فى الصلاة، فلا يستطيعون أن يسمعوا صوت الله داخلهم. مع ان الله من الممكن أن يسمعنا صوته ويعرفنا مشيئته. ويقول معلمنا بولس الرسول أيضاً فى رسالته لأهل أفسس "وَتَعْرِفُوا مَحَبَّةَ الْمَسِيحِ الْفَائِقَةَ الْمَعْرِفَةِ" (اف3: 19). هذه هى المعرفة الروحية، فهى فائقة عن معرفة العقل.
من الممكن أن أحداً يعرف المسيح ويعرف أنه صُلب ولكنه لم يستفد من هذه المعرفة. ويعرف أن يدى السيد المسيح المسمرة على الصليب هى لكى يرتمى هو فى حضنه، وهاتين اليدين لا يمكن أن تغلقا فى وجهه. لكن للأسف لم يأتى إلى حضن المسيح ولم يستفد منه. هذه معرفة عقلية لا تفيد، لكن المعرفة الروحية هى معرفة محبة المسيح الفائقة المعرفة، أى التى تفوق المعرفة العقلية بأن يكون الإنسان فى حضن المسيح ومستمتع بهذا الحضن وبهذه المحبة.
يقول ذهبى الفم: {المسيح يحل فى القلوب التى تحبه، الأمينة المتأصلة فى محبته، فيظلوا ثابتين غير متزعزعين، مما يهبهم قوة ترفعهم فوق مستوى المعرفة العقلية البشرية، إذ يمتلئون من نعمة المسيح الساكن فيهم فيمتلئون إلى كل ملء الله}. هذه هى الحياة الروحية العملية. فهى ليست مجرد تلاوات فى الصلاة لكن حياة فى الصلاة. وليس مجرد ترديد كلمات فى القداس، لكن أن يعيش الإنسان هذه الكلمات فى القداس. هذه هى المعرفة الروحية.
يقول القديس بولس فى رسالته إلى فليمون "لِكَيْ تَكُونَ شَرِكَةُ إِيمَانِكَ فَعَّالَةً فِي مَعْرِفَةِ كُلِّ الصَّلاَحِ الَّذِي فِيكُمْ لأَجْلِ الْمَسِيحِ يَسُوعَ لأَنَّ لَنَا فَرَحاً كَثِيراً وَتَعْزِيَةً بِسَبَبِ مَحَبَّتِكَ، لأَنَّ أَحْشَاءَ الْقِدِّيسِينَ قَدِ اسْتَرَاحَتْ بِكَ أَيُّهَا الأَخُ" (فل1: 6، 7). شخص يريح قلب القديسين بحياته المقدسة ومعرفته الروحية الكاملة.
وفى رسالة معلمنا بولس الرسول إلى تلميذه تيطس يقول "بُولُسُ، عَبْدُ اللهِ، وَرَسُولُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ، لأَجْلِ إِيمَانِ مُخْتَارِي اللهِ وَمَعْرِفَةِ الْحَقِّ، الَّذِي هُوَ حَسَبُ التَّقْوَى" (تي1: 1). معرفة الحق الذى هو حسب التقوى، والتقوى حياة وليست مجرد معرفة ذهنية فقط. الذى يكتفى بالمعرفة الذهنية لا يدخل إلى الحياة.. فتكون معرفته مجرد أفكار فقط وليست حياة. لذلك قال السيد المسيح "اَلْكلاَمُ الَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ هُوَ رُوحٌ وَحَيَاةٌ" (يو6: 63). هو ليس مجرد كلام يدخل الذهن فقط، ولكن الإنسان يحياه.
عندما يقول معلمنا داود النبى "سمر خوفك فى لحمى" (مز 119) المقصود هنا بخوف الله ليس مجرد معرفة عقلية لكنه صار معرفة اختبارية روحية يحياها الإنسان فى حياته. هكذا الصليب أيضاً معرفة روحية، يعيش الإنسان هذه المعرفة ويتعزى وهو حامل صليبه، بصليب المسيح الذى حمله بفرح.. "مِنْ أَجْلِ السُّرُورِ الْمَوْضُوعِ أَمَامَهُ احْتَمَلَ الصَّلِيبَ مُسْتَهِيناً بِالْخِزْيِ" (عب 12: 2).
لذلك فإن المعرفة التى بحسب التقوى هى نابعة من الإيمان. المسألة ليست كلام أو وعظ أو فلسفة، لكنها مسألة معرفة تتلامس مع الحياة. كما قال ذهبى الفم أنها عملية تقوية أى أنه فى التقوى يتلامس الناس مع هذه العملية من خلال الحياة وليس فقط من خلال العقل.
كمثال: التوبة.. نجد أن معلمنا بولس الرسول فى رسالته إلى تيموثاوس يقول "مُؤَدِّباً بِالْوَدَاعَةِ الْمُقَاوِمِينَ، عَسَى انْ يُعْطِيَهُمُ اللهُ تَوْبَةً لِمَعْرِفَةِ الْحَقِّ فَيَسْتَفِيقُوا مِنْ فَخِّ ابْلِيسَ اذْ قَدِ اقْتَنَصَهُمْ لإِرَادَتِهِ" (2تي2 : 25، 26). بمعنى أن الشخص يعرف كيف يستفيق، وهذه المعرفة ليست فى العقل فقط، إنما هذا نوع من المعرفة يجعله يستفيق. إنها معرفة مُخلَّصة من فخاخ العدو..
هذه هى المعرفة التى دخل فيها القديس أغسطينوس والقديس موسى الأسود ومريم المصرية ودخل فيها كل التائبين، إنها معرفة العشرة مع الله والتوبة التى هى لمعرفة الحق.
المعرفة الروحية تنجى من الغواية. مثلما تكلم الشيطان فى أذن حواء وجعلها ترى الشجرة شهية للنظر وبهجة للعيون، هكذا فإن معرفة الله تجعل هذه الغواية تنزع من الإنسان. المعرفة الشيطانية تُوجد الغواية، فتجعل الإنسان يأكل ويسقط ويخطئ. بينما معرفة الله المعرفة الروحية تجعل الإنسان يستفيق من هذه الغواية ويخلع نفسه منها بقوة. لذلك قيل فى سفر التكوين أن آدم وحواء حينما أكلا من الشجرة "انْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا وَعَلِمَا أَنَّهُمَا عُرْيَانَانِ" (تك 3: 7).
العرى هنا حالة وليس معرفة عقلية إنها حالة لكن معرفة الله كانت تكسى هذا العرى فلم يدركاه. فنتقلا من حالة إلى حالة، من معرفة الحق ومعرفة الله التى تستر العرى، إلى معرفة الغواية التى تكشف العرى. إنها معرفة لكن ليست مجرد معرفة عقلية.
ياأحبائى المعرفة التى يُدخل الشيطان الناس فيها تدخلهم فى الدنس والخطية. لأنها معرفة شريرة تجعل الناس يعيشون فى الخطية. لكن المعرفة التى نأخذها من روح الله هى المعرفة ترفعنا من الضعف وتجعلنا قادرين، بنعمة ربنا، على الانتصار على الخطية والحياة فى قداسة تليق بأولاد الله.
يقول القديس أمبروسيوس {صار لك يا آدم معرفة أنك عريان لأنك فقدت ثوب الإيمان الصالح والأوراق لم تسترك لأنك رفضت الثمر والاختفاء لم يفيدك لأنك خُدعت} فحاول أن يختفى من الله، لكن إلى أين يذهب؟! القديس إمبروسيوس يقول لآدم أن المعرفة أوصلته للعرى لأنه فقد ثوب الإيمان الصالح. فالإيمان ثوب يغطى العرى، وليس كلام، لكنه حياة يحياها الإنسان.
ويقول القديس أغسطينوس {انفتحت أعينهما لا لينظرا وإنما ليميزا الخير الذى فقداه والشر الذى سقطا فيه، لقد فقدوا بالمعرفة النعمة التى حفظت العفة فخجلا من عريهما واختباءا من الله}.
الناس الذين يجلسون أمام شبكة النت وأمام الدش ويعرفون خبرات سيئة، فإن هذه الخبرات لا تكون فى العقل فقط إنما تغير أشياء فى داخلهم، فيحبون الشر، ويمارسونه، ويدخلون فى حياة مظلمة خاطئة. أما معرفة البر والقداسة فتجعل الإنسان يدخل فى حالة روحية مقدسة يقترب فيها من الحياة الملائكية المملوءة من الصلاة والتسبيح والقداسة.
يقول القديس جيروم {شجرة الحياة هى الحكمة، ربنا يسوع المسيح، ومن يمسك بها ينجوا من شجرة معرفة الشر التى أَغوى الشيطان بها آدم}
أننا فى الكنيسة أيها الأحباء وفى القداسات والقراءات وكلمات القداس، ليست معرفة عقلية فقط، ولكنها معرفة تدخلك فى حالة روحية، تستعد بها للقداس الإلهى وللقدسات الإلهية التى تتقدس بها.
فى سفر حبقوق يقول "لأَنَّ الأَرْضَ تَمْتَلِئُ مِنْ مَعْرِفَةِ مَجْدِ الرَّبِّ كَمَا تُغَطِّي الْمِيَاهُ الْبَحْرَ" (حب 2 : 14). أى أن معرفة الله تغطى الإنسان وتنقله إلى حالة روحية لائقة بأولاد الله.
وفى سفر الجامعة يقول "لأَنَّ الَّذِي فِي ظِلِّ الْحِكْمَةِ هُوَ فِي ظِلِّ الْفِضَّةِ وَفَضْلُ الْمَعْرِفَةِ هُوَ أَنَّ الْحِكْمَةَ تُحْيِي أَصْحَابَهَا" (جا 7: 12). الحكمة تحى أصحابها أى تعرفهم طريق الحياة الأبدية لكى يعيشوا فيها.
يقول القدس إغريغوريوس الصانع العجائب {حياة الإنسان تقوم على اقتناء الحكمة وهى أعظم من كل الخيرات التى تقتنى من الله، ولذلك فلا يخطئ من يقتنيها فالحكمة تعين أكثر من فريق من أقوى الرجال}.
بمعنى أن الضعيف الذى لا يستطيع أن يمشى يحتاج إلى من يحمله، فالحكمة ترفع الضعيف روحياً أكثر من مجموعة رجال يرفعون الإنسان فى ضعف الجسد. ويقصد بالحكمة هنا المعرفة الروحية التى يحتاج إليها الإنسان.
لذلك يقول معلمنا القديس بطرس الرسول فى رسالته الثانية "قَدِّمُوا فِي إِيمَانِكُمْ فَضِيلَةً (إيمان بدون فضيلة لا فائدة له)، وَفِي الْفَضِيلَةِ مَعْرِفَةً (أى تمييز وحكمة)، وَفِي الْمَعْرِفَةِ تَعَفُّفاً، وَفِي التَّعَفُّفِ صَبْراً، وَفِي الصَّبْرِ تَقْوَى، وَفِي التَّقْوَى مَوَدَّةً أَخَوِيَّةً، وَفِي الْمَوَدَّةِ الأَخَوِيَّةِ مَحَبَّةً" (2بط 1: 5-7)، بمعنى أن الإيمان هو فضيلة تقود إلى فضائل عديدة.. من الإيمان إلى المحبة مروراً بالتعفف والصبر والتقوى إلخ. إنها سلسلة جميلة.
ويقول القديس بولس الرسول فى رسالة رومية "أَيُّهَا الإِخْوَةُ إِنَّ مَسَرَّةَ قَلْبِي وَطَلِْبَتِي إِلَى اللهِ لأَجْلِ إِسْرَائِيلَ هِيَ لِلْخَلاَصِ لأَنِّي أَشْهَدُ لَهُمْ أَنَّ لَهُمْ غَيْرَةً لِلَّهِ وَلَكِنْ لَيْسَ حَسَبَ الْمَعْرِفَةِ" (رو10: 1). "ليس حسب المعرفة" أى ليس حسب معرفة الله. لذلك قيل عن الفريسيين والناموسيين أنهم "يُصَفُّونَ عَنِ الْبَعُوضَةِ وَيَبْلَعُونَ الْجَمَلَ" (مت 23 : 24)، إنه تناقض.
يقول القديس أغسطينوس {كانوا يظنون أنهم يفرّحون الله بذبح خدامه ومحبوبيه وهدم مذبحه الحقيقى}. كما كان يفعل شاول الطرسوسى، يسوق الناس مكبلين ليحاكموا لأنهم مسيحين، لأنه لم يكن آمن بالسيد المسيح بعد. لا شك أن المعرفة الروحية والحكمة الروحية يحتاجها الإنسان الروحى الذى يريد أن يعيش بفطنة وتمييز. فهناك مثلاً فرق كبير بين ضعف الشخصية وبين التواضع. وأيضاً هناك فرق كبير بين الكبرياء والقوة، وفرق كبير بين الفضيلة الحقيقية وبين ما يقابلها من شكل ضعيف باهت، ليس فيه فضيلة.
آخر نقطة أكلمكم فيها لكى لا أطيل عليكم:
إن الحياة مع الله هى فوق كل معرفة عقلية ونظرية.. فعندما يقول "لأَنْ مَنْ عَرَفَ فِكْرَ الرَّبِّ أَوْ مَنْ صَارَ لَهُ مُشِيراً؟" (رو11: 34)، وأيضاً "مَا أَبْعَدَ أَحْكَامَهُ عَنِ الْفَحْصِ وَطُرُقَهُ عَنِ الاِسْتِقْصَاءِ!" (رو 11 : 33). فالمسألة ليست مجرد مشورة فكرية بشرية ولكنها مشورة روحية حياتية.
وفى سفر اشعياء يقول: "وَيَحِلُّ عَلَيْهِ (أى على المسيح) رُوحُ الرَّبِّ رُوحُ الْحِكْمَةِ وَالْفَهْمِ رُوحُ الْمَشُورَةِ وَالْقُوَّةِ رُوحُ الْمَعْرِفَةِ وَمَخَافَةِ الرَّبِّ" (اش 11 : 2). طبعاً المقصود هنا هو ناسوتياً، أى من حيث الناسوت، لأن الابن والروح القدس لاهوتياً هما أقنومان فى الثالوث القدوس، لذلك يقول "كُرْسِيُّكَ يَا اللهُ إِلَى دَهْرِ الدُّهُورِ. قَضِيبُ اسْتِقَامَةٍ قَضِيبُ مُلْكِكَ" (مز 45 : 6)، وهذا الكلام من الناحية اللاهوتية، أما من الناحية الناسوتية يقول "أَحْبَبْتَ الْبِرَّ وَأَبْغَضْتَ الإِثْمَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ مَسَحَكَ اللهُ إِلَهُكَ بِدُهْنِ الاِبْتِهَاجِ أَكْثَرَ مِنْ رُفَقَائِكَ" (مز 45: 7).
يقول ذهبى الفم {معرفتنا للأمور الإلهية محدودة هنا ولكن فى الأبدية سنعرف المسيح كما هو. فمتى جاء الكامل فحينئذاً يبطل الحرف ويعجز العقل ولكن تدرك الروح كل ما للمسيح}. لذلك يقول معلمنا بولس الرسول "يَا لَعُمْقِ غِنَى اللهِ وَحِكْمَتِهِ وَعِلْمِهِ!" (رو 11: 33).
إن الآباء القديسين الذين قالوا لنا هذه الأقوال الرائعة كانت لهم علاقة قوية جداً بالله إلى درجة الكشف والادراك والحياة التى عاشوها مع المسيح فأدركوا هذا الغنى. ويستتبع هذا الاستشفاء من الخطية ومن الضعف الروحى الذى قد يصيب الإنسان نتيجة حروب الشيطان ونتيجة محاربات الجسد والعالم.
وهذا هو دور الكنيسة أن تنقل إلينا المعرفة الروحية الحقيقية التى تجعلنا فى القداسة وفى عمل النعمة. لذلك يقول الرب فى سفر أرميا "وَأُعْطِيكُمْ رُعَاةً حَسَبَ قَلْبِي فَيَرْعُونَكُمْ بِالْمَعْرِفَةِ وَالْفَهْمِ" (ار 3 : 15). أى المعرفة الروحية التى تنقل الإنسان إلى الفهم الروحى العميق، وإلى الحالة الروحية التى يتقابل بها مع الله، ويتعلم حياة التقوى والنقاوة إلخ.
هذه هى الحياة التى عاشها القديس سيدهم بشاى لذلك شهد للسيد المسيح بدمه. إن أضعف شهادة هى شهادة الفم وأقوى شهادة هى شهادة الدم. القديس سيدهم بشاى شهد للسيد المسيح بدمه. فبالرغم من أنهم قد عذبوه إلا أنه لم يخطئ فى حقهم. ورأى السيدة العذراء وهى قادمة إليه لكى تأخذ روحه، فى هذا المكان، فقال لهم "هاتوا كرسى للسيدة العذراء لكى تستريح". وفى هذا المكان وجد هذا الكرسى المبارك الذى يجلس عليه الآن نيافة الأنبا بيشوى.
سأل بعض العلماء القديس أنبا أنطونيوس قائلين: أنك لا تملك كتباً ولا تقرأ كثيراً فمن أين لك هذه المعرفة؟ هذا لأن القديس الأنبا أنطونيوس كان وسيلة إيضاح للمعرفة الروحية. قالوا له أنت إنسان بسيط ولم تتعلم فمن أين لك هذه المعرفة؟ فرد عليهم بالسؤال التالى: من الأسبق العقل أم المعرفة؟! فقالوا العقل طبعاً.
فأجابهم "إن المعرفة يمكن أن يلدها العقل بدون كتب الفلاسفة"، وكان يقصد أنه بالكشف الإلهى وبعمل الروح القدس فى الإنسان تأتيه المعرفة. كان الفلاسفة يشعرون أنهم عاجزين أمام القديس أنطونيوس، رغم أنه إنسان بسيط، لكنه عميق وحكيم وممتلئ من المعرفة الروحية.
لقد تعلم القديس أنطويوس من دروس عملية:
الدرس الأول: من إنسان ميت.. فنظر إليه وقال أنا أيضاً هذه سوف تكون نهايتى.
الدرس الثانى: من الإنجيل.. "إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَكُونَ كَامِلاً فَاذْهَبْ وَبِعْ أَمْلاَكَكَ وَأَعْطِ الْفُقَرَاءَ فَيَكُونَ لَكَ كَنْزٌ فِي السَّمَاءِ وَتَعَالَ اتْبَعْنِي" (مت 19: 21).
الدرس الثالث: من القدوة الحسنة التى رآها فى النساك وتمثل بهم.
الدرس الرابع: من إمرأة نزلت تستحم فى النهر فوبخها أنها قد تعرت أمامه فقالت له الراهب لابد أن يدخل إلى البرية الجوانية.
وتوالت الدروس من الكتب المقدسة التى كان يقرأها بعمق.
الكلام الذى قاله الأنبا أنطونيوس للفلاسفة يبين أن الله يعطى للإنسان نعمة فى عقله أن يستقبل عمل الروح القدس الذى يكشف لنا عن المعرفة الروحية العملية الاختبارية. إن الحياة المختبرة هى التى جعلت القديسين يستطيعوا أن يفرزوا الجيد من الردئ ويختاروا الحياة الحقيقية مع الله.
قال الآباء عن الإفراز أن {الإفراز هو عين النفس وسراجها لرؤية الروحيات}. وقيل أيضاً {الإفراز هو ربان السفينة (القيادة الروحية الحكمية) والافراز هو يخلص من الشياطين وصراعاتهم}. يحاول الشيطان أن يضل الناس ويحارب حتى القديسين، لكنه لا يستطيع أن يضل الإنسان الذى عنده المعرفة الروحية، والذى يحيا مع الله.. هو يقدر أن يبلبل الأفكار لكن الحياة لا يستطيع أن يبلبلها..
عندما جاء الشيطان للقديس الأنبا باخوميوس فى صورة المسيح وقال له أسجد لى، أدرك الأنبا باخوميوس لتوه أنه لم يكن هو السيد المسيح.. قال فى نفسه أنا أسجد أمام الله كل يوم فما الذى يجعل المسيح يقول لى أسجد لى.. فرد قائلاً: أنا لا أريد أن أرى السيد المسيح على الأرض أريد أن أراه فى السماء.
أيضاً القديس يوأنس القصير يقال أنه عندما عطش يوماً فأحضر له أحد الآباء الشيوخ كأس ماء فقبله منه وشرب، فتعجب الآباء وقالوا كان يجب عليك أن تخدم أنت الشيخ وليس الشيخ هو الذى يخدمك، فكيف تقبل كأس ماء من آب شيخ كبير. فأجاب إجابة حكيمة وقال لهم: أردت أن يكون له أجر فى السماء كما قيل فى الكتاب "مَنْ سَقَى أَحَدَ هَؤُلاَءِ الصِّغَارِ كَأْسَ مَاءٍ بَارِدٍ فَقَطْ بِاسْمِ تِلْمِيذٍ فَالْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ لاَ يُضِيعُ أَجْرَهُ" (مت 10: 42). إنها إجابة حكيمة تدل على شخصية حكيمة وعقلية حكيمة.
وهكذا فإن الإفراز ينجى من حروب كثيرة شيطانية.