الرجاء و الشهادة
تعصف ببلادنا والبلدان العربيَّة، بشكل خاصّ، أوضاع توحي وكأنَّ هنالك من يخطِّط ويدبِّر وينظِّم لأجواءٍ لا تُبَشِّرُ بالخير، ويدعو إلى الشَّرِّ والقتل والنَّهب والخطف وعدم الأَمَان، ويسعى لأن لا يكون هنالك سلام أو ٱستقرار. كما قد يظهر أنّها تهدف، كما تنبَّأ البعض، إلى تهجير المسيحيِّين من أراضيهم وهدم الإيمان الَّذي في صدورهم.
في هذه الأجواء يرى البعض أنَّ الشَّهادة بالدَّم على قاب قوسَيْن من المؤمنين في الشَّرق، أو أنّ الملجأ الوحيد أن تُتْرَكَ هذه البلاد إلى أصحاب المصالح والغايات الَّذين يَسْتَلِمُونَ زمام الأمور في هذه الأوطان. وبالتالي، يُدفَعُ المسيحيُّون إلى البحث عن بلاد يجدون فيها الملاذ الأمين والطمأنينة والسَّلام لهم ولأولاهم.
أمَّا نحن المسيحيين في الشَّرق فلنا قرارٌ أنَّ هذه البلاد هي بلادنا ولا يمكن أن تُتْرَكَ للعابثين بها ولا للَّذين يسعون إلى بيعها والسَّاعين لكسر البِشَارَة المسيحيَّة بأنَّ "المسيح قد قام".
نحن ندرك أنَّنا مهما تَغَرَّبْنَا فالشِّرِّير سَاعٍ وراءنا أَنَّى ذهبنا ولو إلى آخِر بقاع الأرض، طالما نحن ننادي بربٍّ غيره ونؤمن بسيِّد حقيقيّ، الرّبّ يسوع المسيح، الَّذي نحتمي تحت جناحَيْه ويحتضننا كما تحتضن الدَّجاجة فراخها، ويفدينا بدمه النَّازِف من جنب حبِّه لنا.
الشَّهادة الَّتي نُدعى إليها اليوم هي شهادة الكلمة الحقّ في وجه الباطل وشهادة الدَّم إن ٱقتضى الأمر زودًا عن هذا الوطن الَّذي نؤتمن عليه كما نؤتمن على إيماننا الَّذي هو أغلى وأسمى من الحياة.
الشَّهادة تقتضي مِنَّا اليوم قبل كلّ شيء أن نكون كلّنا قلبًا واحِدًا وفكرًا واحِدًا حامِلين فكر المسيح ومُسْتَنِيرين بروحه القُدُّوس، مواظِبِين على الصَّلاة والصَّوم ومُنْكَبِّين على الكُتُبِ المقدَّسَة ومتزوِّدِين بروح القدِّيسين الشُّهداء والأبرار. الشَّهادة المطلوبة مِنَّا تبدأ بنزع الإهتمامات الدنيويَّة والتِّقَنِيَّة والتِّكنولوجيَّة، وعدم التَّلَهِّي عن الله بتفاهات هذا العالم الزائلة، ليتوجَّه الذِّهن والقلب نحو الضَّابط الكلّ بروحٍ مُنْسَحِقَة وتائِبَة مُتَرَجِّيَة الرَّحمة والغفران للمُسِيئين إلينا، واقتناء السَّلام الَّذي من الرَّبّ.
لم يَعُدِ الكون كما كان بل أصبح كلّه يغلي بالبغض والمصالح الشَّخصيَّة والدوليّة. هكذا هو عالم اليوم، وأمَّا نحن الَّذين في العالم ولسنا منه، فلنا رجاء بالمسيح القائم والغالِبِ، وهو قد ابتغانا أن نكون رسالته في هذا العالم مكتوبين لا بِحِبْرٍ بل بروحه القُدُّوس ومختُومِين بختم دمه المقدَّس.
بشارتنا أنَّ المسيح قد قام لم تكن يومًا كلامًا شِعْرِيًّا ولن تكون. بشارتنا هي شهادة لنا بأنَّ الشَّرَّ مهما طال، وأنَّ الشِّرِّير مهما جال فالغلبة الأخيرة للمسيح الَّذي نحيا به. ولنا في كلّ مواجهة مع الشَّرِّ الغلبة لأنَّ المسيح الَّذي نلبس هو القادِر على النَّصر والغَلَبَة والظَّفَر متى شاء، ولنا في هذا رجاء.
لا يمكن أن يكون الشَّرُّ سَيِّدًا في العالم ولو سُمِّيَ بسيِّد هذا العالم، لأنَّ رجاءنا بالَّذي ٱنتصَرَ وأنَّ أوطاننا تُبْنَى بأصحاب الإيمان والرَّجاء وبتسليم الذَّات لله الحيّ. بلادنا قد روَّتْهَا دماء القدِّيسين وأضحَتْ آنية تحمل ذخائرهم وتفوح بعطر قداستهم. هي، أيضًا، تشهد مع كلّ مؤمن حقّ أنّه لا يمكن أن تموت هذه البلاد إن بقي رجلٌ واحدٌ قلبه لله وبقي أمينًا على إيمانه وينادي:
" المسيح قام! ... حقًّا قام!".
+ أفرام كرياكوس
مطران طرابلس والكورة وتوابعهما