البابا شنودة الثالث
مراحل الخطيئة
في غالبية الحالات لا تهجم الخطيئة على الإنسان دفعة واحدة بكل قوتها، إنما تزحف إليه زحفًا حتى تصل إليه بشيء من التدريج. لذلك فلينظر كل شخص من أين تأتيه الخطية، ويرقب تطورها، ويحترس..
* ومراحل الخطية تبدأ غالبًا باتصال، ثم انفعال، فاشتعال.
فتتصل الخطية بأي شخص عن طريق العثرات أو التهاون أو الصدفة، أو المعاشرات الرديئة، أو لقاءات الحياة العادية. فإن أعطاها مجالًا، قد تؤثر عليه فينفعل بها سواء أكان انفعالًا فكريًا أو عاطفيًا أو بطريق الحواس. فإن تهاون مع هذا الانفعال، يشتد فيتحول إلى اشتعال. وفي هاتين المرحلتين تكون مؤثرات الخطية قد انتقلت من الخارج إلى الداخل، وفي هذا خطورة. وقد يتطور الأمر إلى ما هو أشدّ...
* يتطور الأمر إلى صراع داخلي، ربما ينتهي إلى تسليم وسقوط...
إنه صراع بين الضمير والخطيئة، أو بين الروح والمادة. وهذا الصراع يدل على الإنسان رافض للخطيئة، وأنه يقاوم. وهى مرحلة متعبة، ولكنها أفضل من الاستسلام للخطأ والسقوط. وهكذا يكون الإنسان قد أوقع نفسه في هذا الصراع بتهاونه في المراحل السابقة...
* والصراع مع الخطيئة غير مضمون النتيجة
ويتوقف على مدى مقاومة الشخص، وعلى تدخل النعمة لإنقاذه... فقد تدركه المعونة الإلهية، وتنتشله بطريقة ما مما هو فيه. وقد يتعب من الصراع ويفشل، ويلقى سلاحه ويستسلم ويسقط. وذلك لأن الخطيئة من طبيعتها أنها لا تستريح حتى تكمل.
* فإن سقط الشخص في ذلك الصراع مع الشر، لا يتركه الشيطان بل يستمر في محاربته له، حتى تتكرر الخطيئة، وحتى تتحول إلى عادة أو إلى طبع فيه. ويصل إلى الوضع الذي لا يستطيع فيه أن يقاوم...!
* وهذا ما نسميه بالعبودية للخطية. حيث يخضع لكل ما يقترحه الشيطان عليه، كعبد له وللخطية التي سيطرت عليه. ثم لا يكتفي عدو الخير بأن يجعل فريسته عبدًا له، إنما يتطور إلى ما هو أبشع...
* تتطور العبودية إلى مذلة العبودية..!
أي إلى الوضع الذي يشتهى فيه الشخص الخطية التي تسيطر عليه، ولا يجدها..! ويطلبها متوسلًا بكل قواه. يتوسل ولا يتوصل.. كمن يطلب شهوة المال، أو شهوة الجسد، فلا يجدها. أو كمن يطلب العظمة أو الكبرياء، أو الانتقام أو التشفي. ويسعى بكل رغبات قلبه لعله يجد... وكأنه يتوسل إلى الشيطان، أو يتسول من الشيطان، أن يمنحه الخطية! وهذه مذلة.. وقد يتمادى الشيطان في غروره، ويحتقر هذا الشخص الذليل..!
* فلينظر كل شخص في أية مرحلة من هذه المراحل هو كائن؟
* وليختصر الجهاد والصراع، ويبعد عن الخطوة الأولى.
فهذا أسهل له وأربح وأكثر ضمانًا. كما أنه بابتعاده عن أول مرحلة من مراحل الخطية، يدل على عدم قبوله لها بسبب نقاء قلبه.. ويريح نفسه من التفاوض مع الشيطان بعدم التعامل معه.
إنه من السهل على أي شخص، أن يقتلع من الأرض نبتة صغيرة أو شتلة أو شجيرة. ولكن إن صبر عليها حتى تصير شجرة ضخمة، حينئذ يكون من الصعب عليه اقتلاعها. وهكذا مع فكر الخطيئة منذ بدايته...
* قد ينتصر إنسان على فكر شرير بعد صراع مرير، ولكنه في أثناء الصراع يكون قد نجّس ذهنه وربما قلبه.
وحتى إن طرد الفكر من عقله الواعي، قد يبقى في ذاكرته وفي عقله الباطن. وربما يعود إليه بعد حين، أو يظهر في أحلامه أو في ظنونه... فلماذا كل هذا التعب؟ الوضع السليم هو التخلص منه من بادئ الأمر، قبل أن يستمر، وقبلما يتسع نطاقه في تدمير الروحيات. والانتصار على الفكر يبدأ من مرحلة الاتصال. فليحاول كل شخص أن يبتعد عن الاتصال بمصادر الخطية.
يقول داود النبي في المزمور "طوبى للإنسان الذي لم يسلك في مشورة الأشرار، وفي طريق الخطاة لم يقف، وفي مجلس المستهزئين لم يجلس".. لذلك لا تسمح للخطيئة أن تتطور معك، أو تجعلك تتطور معها. ومن أول خطوة ابتعد عنها. هذا إذا كنت تريد أن تتوب، وأن تحتفظ بقلبك نقيًا...
* لذلك في أية مرحلة من مراحل الخطية وجد الإنسان نفسه، فليجاهد أنها لا تتطور إلى أسوأ.
لأن الإرادة تكون قوية في أول القتال، أعنى في مرحلة الاتصال. فإذا وصل الشخص إلى مرحلة الانفعال، تكون إرادته قد بدأت تستجيب للخطأ. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى). وفى الاشتعال تكون قد ضعفت. أما في مرحلة الصراع، فإن الإرادة تكون بين الحياة والموت. وإن سقطت تكون قد وقعت صريعة في حربها ضد الخطية. وفي حالة العبودية للخطية تكون الإرادة قد ماتت تمامًا. ويصبح الإنسان حينذاك مسلوب الإرادة.. إذن فليعلم هذه الحقيقة جيدًا:
إنه كلما يخطو خطوة في طريق الخطية، تضعف إرادته.
وكلما يضعف، يميل إلى الخطية، ويكون قد أعطى الشيطان مكانًا ووضعًا داخل نفسه. وكلما يخطو خطوة أخرى نحو الخطية، تقل مخافة الله في قلبه، ويكون سقوطه بالعمل متوقعًا جدًا...
والإنسان الحكيم لا يستهين بأية خطية، مهما بدت صغيرة...
فأي ثقب بسيط في سفينة، قد يتسع إذا أُهمل حتى يتحول إلى كارثة غرف. ونهر النيل بمجراه العظيم بدأ بقطرات مياه أمطار سقطت على جبال الحبشة واستمرت في سيرها حتى وصلت إلينا نهرًا. وأطول مشوار في طريق الخطية بدأ بخطوة واحدة
لذلك فلنحترس مدققين من جهة أي تهاون أو تراخ في كلامنا أو تصرفنا، عارفين أن من يهتم بالقليل، سيهتم بلا شك بالكثير. وكما يقول المثل الانجليزي "اهتم بالبنس، فتجد أن الجنيه يهتم بنفسه": Take care of the pennies and the pounds will take care of themselves لذلك كن دقيقًا جدًا. فربما خطأ بسيط يجرّ إلى مشاكل كثيرة. بينما التدقيق ينفعك ويعلمك الحرص...
فالذي يهتم بالحشمة مثلًا وهو داخل غرفته، لابد انه سيحتشم خارجها. الذي في حجرته الخاصة يستحى من أرواح الملائكة والأبرار، هذا لابد سيسلك باحتشام في الخارج أمام الناس، وتصير الحشمة من طباعه التي يقودها. وهكذا في باقي تصرفاته...
* إن الشيطان ذكي جدًا. لا يهاجمك بخطية بشعة دفعةً واحدة. لا يطلب منك بابًا واسعًا يدخل منه إلى حياتك. وكل ما في الأمر أنه يستأذنك في ثقب إبره. وقد لا تبالي فتسمح له. وهذا يكفيه، ويظل يوسعه حتى يتلف حياتك كلها...
* حقًا ما أكثر الخطايا التي تدخل من ثقب إبره..!
إنه لا يدعوك مثلًا إلى إهمال الصلاة، لكنه قد يقترح تأجيلها بعض الوقت ريثما تستعد. ثم يظل يؤجل ويؤجل حتى يفوتك موعد الصلاة أو تنساها. وهكذا يفعل معك بالنسبة إلى التوبة..
* والخطوة الأولى إلى الخطية تختلف من شخص إلى آخر، وتتنوع حسب الظروف. فكن يقظًا من هذه الناحية. وإذا دُفعت إلى الخطية الأولى، فلا تكمل وتصل إلى الثانية...
واحترس من أن تكون الخطوة الأولى بالنسبة إليك، هي الغرور والثقة الزائدة بالنفس التي تقودك إلى عدم الاحتراس أو إلى شيء من الفتور...
كذلك استفد من دراسة الخطوة الأولى التي أسقطت غيرك. وبخاصة أولئك الذين كانوا أقوياء، أو ظنوا أنهم أقوياء.
وبالاحتراس من الخطوة الأولى، تتدرب على حياة التدقيق وعلى حياة الجهاد الروحي. وليكن الله معك.