الخطيئة!!!
أقول: أنّ قصة الخطيئة، قصة حزينة محبطة مزلزلة، للغاية في أدق تفاصيلها، إذ تشوه تاريخ البشرية، وتجرد الحياة من قيمتها، وهي تحط من كبرياء الجنس البشري، وهي مأساة بكل المقاييس يكتنفها الكثير من الحزن والأسى والإحباط، في كل أبعادها وتفاصيلها. هي قصة تحكي فشل الإنسان الذي سقط على وجهه، وأدرك عجزه الحقيقي، إذ اختار بملء حريته الطريق، فسقطت حجته من تلقاء نفسها، وقوض العلاقة التي كانت تربطه مع خالقه، وأقام حربا مع أخيه الإنسان. وكانت الخطيئة أنْ استحوذت علينا، وعلى ضمائرنا المثقلة، على أفكارنا، على سلوكنا اليومي، وتصرفاتنا، على علاقتنا مع الآخرين، فيقرع الإنسان بالسوط أو يضرب بالسيف لكي ينال بغيته، بطريقة تشبه شريعة الغاب.
لولا وجود الخطيئة على الأرض، لأنقلبت الأمور كلها رأسا على عقب، وتغيرتْ كل المفاهيم! لأنطلق الإنسان لاهيا يغني أغنية الحياة، واحتفظ بقدميه على الأرض إلى الأبد. لكانت الأرض تشبه السماء تماما، طاهرة نقية، ولا تشوبها شائبة، ولا يعكرها أمر ما. لكانت تنعم بالسلام والراحة، وتتسربل بالطمأنينة، ولم يكن العالم ليشهد قط منازعات وحروب طاحنة لا تبقي ولا تذر، ولا شهد اضطرابات وقلاقل، لكان فيها الإنسان يتمتع بالسعادة، ويتمتع دائما بالنصرة على الأشياء، ولكانت تغدو الابتسامة تزحف إلى فمه، يختبر حياة بملء الرخاء والبركة، يقفز متهللا من الفرح، لا يعرف همّا، ولا غمّا ولا يزحف عليه تعب أو شقاء، أو ألم، وما كانت حياته تتأرجح مثل حائط مائل، ولا يصارع مشاعر مضطربة. ولما كان الإنسان يسن شرائع ظالمة تحثّه على قتل أخيه الإنسان تحت دعاوى باطلة ظالمة، مريبة، ومسميات غريبة، فيجعل من الأرض شريعة الغاب، بغية أنْ يحرز لنفسه مجدا وكرامة.
لولا الخطيئة لما قضيَ على الإنسان بالموت، ويرجع إلى تراب الأرض. الموت الذي انبرى على مسرح الحياة، من دون منازع أو منافس بقوة، الموت الرهيب الذي لا يمكن تجنبه البتة، فهو أمر لا بد عنه. لولا الخطيئة لما حفر الإنسان لنفسه قبرا هربا من نفسه. لولا الخطيئة لما ارتد الإنسان إلى الوراء على عقبيه، بعيدا عن الغاية، كأنما لدغته عقرب، فصعب عليه ماذا يأخذ وماذا يترك، أو كيف يفكر. لولا الخطيئة لما قيّد نفسه بقيود الإثم والعبودية، ففاضتْ حياته بالفوضى والطغيان، وارتشف من الأنانية كؤوسا مترعات واقتات على الكراهية والكبرياء، وتلوث قلبه بالطمع والشهوة والرغبات. لولا الخطيئة لما قصرت المعرفة، إدراك عقله، لما كانت تنحرف حياته عن الاستقامة، لما كان يحني رأسه واكتسى وجهه بكل مظاهر الحزن والاكتئاب والغضب، لما تلعثمتْ الكلمات على شفتيه، لما انساق البشر إلى الضلال، لما اختبر الألم كثيرا في حياته، وأصبحت حياته مليئة بالمرارة، حياة رمادية باهتة، وأخفق قلبه وازدادت ضرباته، ولما أخرجته شهوته عن مسار حياته الطبيعي، ولما أصبح ذهنه مثل صفيحة القمامة.
الخطيئة أوجدتْ نفسها وفرضتها بالقوة على البشر، كل البشر من دون استثناء ومن دون منافس، فغرق الإنسان في الخطيئة حتى هامة رأسه، وارتشف منها كما يرتشف الماء، بعد أنْ سقطت كل دفاعاته، وبات مضطربا، مهزوما، مغلوبا على أمره، يهيم على كل أيّام حياته، وقد ضل طريقه في برية الشك والأحزان، لا يلوي على شيء، وهو في أحط حالات العبودية. أوجدت الخطيئة بعد أنْ استسلم لها الإنسان، إذ كان يربض في أعماقه حنين دفين لها. ذلك الحنين الذي كان يحرك حواسه ويربكُ عواطفه، من دون أنْ يدرك خطورة ما يعمله.
الخطيئة جلبت العار والشنار على الإنسان، وجعلته يخور تحت ثقل الأثم. وجلبتْ عليه الويل والثبور وقد دمر الرفض في حياته أيّ إحساس بقيمة الحياة. الخطيئة سلبته وجردته من كل حقوقه واستعبدته، وخلقت في داخله مشاعر الألم، انتزعت عنه الفرح والمسرة، فانهار تحت وطأتها. الخطيئة اقتحمت كل حياته بكل جوانبها وأبعادها، وتفاصيلها. هي جمدتْ إرادته الحرّة، وجعلت من حياة الإنسان أرض معركة، الخطيئة جلبت الشر، كل الشر على الأرض قاطبة.
من يرى الخطيئة في بشاعتها، وفي سطوتها ؟ فمتاعب الحياة وصعابها والشوك والحسك كلها نتاج الخطيئة، فالخطيئة لا تأتي إلا بالخزي، والرماد، ولا تخلف ورائها سوى الإحباط والشعور بالفراغ والاختناق، ومسلك الخطيئة هي آبار مشققة. الخطيئة تأتي بالفوضى والحرب، الظلم والاضطهاد. هي الحمل الذي يثقل الناس، وهي بقعة سوداء في ثوب أبيض فهي سر عجزي وهزيمتي، ويأسي وخيبة أملي ودموعي وحزني.
وهي تسعى أنْ تسلبني إرادتي وتفسد نفسي وعقلي وتقهر كل كياني وتتملكه. تبقيني أنتظر إلى الأبد وأنا أتخبط في حال من الشك العقيم وغير المثمر. تدفعني للانحراف وراء الضلال، التي تسف بالأفكار إلى الحضيض الذي ليس بعده شيء. إنّها الشهوة التي تعطل القوى المدركة العاقلة، وتطفئ البصيرة المبصرة، وهي تنزع عني ثوب الطهارة والتقوى والخير. هي الخطر الذي ينتظرني في كل طريق ومنعطف، هي الذئب الذي يتحفز للانقضاض على الفريسة. فقد كانت لدي ذكريات مخجلة عن ماض حافل بالخطيئة. هي التي أوجدت اللعنة، والشوك والعلقم، الحرب والموت.
ما من أحد ينكر أنّ الخطيئة تبدو في كثير من الأحايين، جذابة ومغرية للغاية، ولكن كشجرة بأوراق من دون ثمر. وإنّ كل خطيئة لا بد أنْ تخلف ورائها أثرا لا يمحى، هي تسحق العظماء وصغار القوم على حد سواء. فهي تجري انقلابا جذريا في الحياة، كشيء ترغب فيه النفس رغم إنّها لا تشبع ولا تروي، تبقي مرتكبها يعيش في تعاسة، فهي لا تقيم وزنا للاستقامة والفضيلة وتجعل من المرء بعد أنْ يكون قد تعثر في أشراك ما جنته يداه، لكي يتخذ موقف المتسول، حتى يتجرع من لذات الحياة حتى الثمالة. ومع ذلك ينبغي أنْ يقر كل واحد منا أنّ شيء سوى الخطيئة، قادر أنْ يحول دون حياة الله فينا.
نسعى نحن البشر، دائما وبشيء من المواربة والرياء والتخبط، في قلب الأشياء، أنْ نستخدم أسلوبا ملتويا، كاذبا، من شأنه أنْ نستهين أو نقلل من خطورة كلمة الخطيئة التي باتت تقض مضاجعنا، وأنْ لا نسميها باسمها الحقيقي، وأحيانا كثيرة نحاول بقصد أنْ نستبدلها بعبارات أقل وطأة وتأثيرا، أنْ نعتبرها مجرد خطأ، أو زلّة، أو هفوة، أو عدم فهم، أو تصرف غير صحيح، من دون أنْ نأتي على ذكر المعنى القبيح للخطيئة. رغم أنّ الخطيئة هي خاطئة جدا، فالخطيئة هي ضرب من الأنانية، هي فعل قبيح وإساءة موجهة إلى خالق الكون!
الخطيئة هي منفرة للغاية وكريهة، فهي مرة المذاق قارصة الملمس. الخطيئة هي التي جلبت اللعنة والموت على الجنس البشري. إنّها السرقة والزنا والفتل، إنّها الكبرياء والحسد والكراهية، إنّها الفعل الرديء، ونقطة ضعف محزنة. ما أصعب أنْ يكون لشيء بريق ثم يفقده. فالخطيئة تحتقر كل ما مقدس، تلحق العار بالناس.
سؤالي هو: هل أنتَ تلتمس عذرا لخطيئتكَ، ومبررا لها، وترفض الحق في سبيل الإبقاء على تعاليكَ وكبريائكَ، ومثالبكَ؟ هل أنتَ واقع بين أنياب أسد؟ هل استطعتَ أنْ تصلح الأمر مع الخطيئة، وتصحح الأوضاع الخاطئة، هل وضعتَ الكسر في السلال ؟ هل أيقظتكَ نتائج الخطيئة المذلة، وأدركتَ مرارتها، والجروح العميقة التي خلقت في داخلكَ ؟ وأدركتَ أنّها أرسلتكَ إلى أرض فقيرةن إلى برية الحياة ، وضاعت عليكَ فرصة الراحة ؟ ووقعتَ تحت تبكيت عليها ؟ هل شعرتَ أنّك مغلول اليدين؟ غرقتَ في مهمه الأمواه ؟ وهربتَ في خزي وعار؟
هل انتزعت عنكَ خطاياكَ لذا أنّك ترفض حياة الخطيئة ؟ فما أقسى نتائج الخطيئة المدمرة ؟ هل تشك في هذه الحقيقة ؟ أجل، الخطيئة هي أنْ يشعر المرء أنّه يسير في نفق مظلم، هي الإحساس الفراغ والتيه، وأنّ فعلا ما أخدش كبريائه، فقدان المعنى والشعور بالذنب، إنّها خداع وفراغ وإثم، ولا تأتي إلا بالخزي والرماد. ولا تخلف ورائها سوى الإحباط والشعور بالفراغ والاختناق. الخطيئة هي إنكار الله وتأليه للذات، وهي رغبة الإنسان في أنْ يحكم نفسه ذاتيا، هي الاستسلام للتجربة.
قد يكون مفهوم القضاء على الخطيئة، مثار جدل ولغط كبير لدى العامة والخاصة، وقد يكون أمر الخطيئة يختلف لدى فئة من فئة أخرى. هناك من يدعي أنّ الخطيئة، يمكن أنْ يزول تأثيرها، وقوة مفعولها، وتكسر شوكتها من خلال أعمال البرالذاتي، من خلال الحسنات، وتقديم الذبائح والمحرقات, وهذه كلها ضرب من الجهل، وكأنّ الإنسان المحدود، يريد أنْ يرضي الكائن غير المحدود، بهذا التدين الغريب، لأنّ الخطيئة تستحق الموت، والذي أسيئ إليه بطريقة غير محدودة. فلكي يسوّى أمر الخطيئة لا على الطريقة البشرية، بل بحكمة إلهية، هي أنْ يتحمل الله حل مشكلة الخطيئة، بكيفية لا يتصورها العقل البشري، وإلا فأنّ جميع البشر، هالكون لا محال.