قصة: ملاك الرأفة
القمص تادرس يعقوب ملطي
قصة من واقع التاريخ (بداية قصة القديس تكلاهيمانوت)
اعتادت سارة أن تدخل الكنيسة كل يوم مع زوجها الكاهن "سجاز آب" أي "نعمة الآب" لتشترك مع الشعب في صلاة رفع البخور أو صلوات القداس الإلهي، لكن هذه المرة دخلت الكنيسة بمفردها. ولم يكن في الكنيسة أحد قط، وإذ كانت الأبواب والنوافذ مغلقة كانت أنوار "القناديل" تتلألأ أمام أيقونات الرب يسوع وأحبائنا القديسين. سارت المرأة في هدوء وسكون تجاه الهيكل، حيث انحنت بخشوع ساجدة، وهي تترنم: "أما أنا فبكثرة رحمتك أدخل بيتك وأسجد أمام هيكل قدسك بمخافتك".
قامت المرأة ورفعت أنظارها إلى صورة الرب المصلوب التي فوق باب الهيكل، وصارت تهمس بكلمات لم يسمعها أحد. كانت تارة تُحرك شفتيها بصوت غير مسموع، وتارة تترك قلبها ينطق بما يعجز لسانها عن النطق به، وثالثة تُسكت قلبها لتقف في صمت أمام الرب الذي أحبها وأسلم ذاته لأجلها.
لكن العدو حاول أن يحاربها بالانشغال بعدم إنجابها، أما هي ففي حكمة سلّمت الأمر بين يديّ خالقها، إذ صرخت في أعماق نفسها قائلة في هدوء:
"ربي يسوع المسيح، أنت ملك الملوك ورب الأرباب.
أنت عون الذين في الشدائد والضيقات، رجاء الخليقة كلها.
فرح الحزانى والمتعبين، لك تسجد أعمدة البرق.
ولك يخضع الرعد والرياح والعواصف، وبقوة لاهوتك يسير الفلك.
اسمعني، وارزقني ولدًا يُرضي صلاحك، وإن كان لا يُرضيك فأغلق أحشائي يا إلهي.
لك ينبغي المجد والكرامة والعز والسجود، الآن وكل أوان وإلى دهر الدهور. آمين".
جففت المرأة عينيها، وخرجت من الكنيسة، وقلبها مملوء هدوءًا. وإذ ذهبت إلى بيتها، بدأت تفكر في الحياة الأبدية كعادتها، لكن هذه المرة تزايد حنينها جدًا إلى ربنا يسوع، وتاقت نفسها لو انطلقت من هذا الجسد وعبرت إلى الفردوس لتحيا مع الرب، منتظرة يوم الدينونة المجيد.
وفيما هي تفكر في هذه الأمور، بدأت تتساءل ولماذا لا تُسلم كل أموالها لربنا يسوع في أيدي أخوته الفقراء، إذ كانت غنية جدًا، ورثت الكثير عن والدها الثري. لقد اعتادت أن تعطي بسخاء، حتى لقَّبها الناس من أجل محبتها للفقراء وسخائها وكثرة فضائلها "أكزيهارية" أي "مُختارة اللَّه". وكانت بالأكثر في كل يوم اثني عشر من الشهر تحتفل بعيد رئيس الملائكة ميخائيل بعمل ولائم ضخمة للفقراء بعد صلاة القداس الإلهي. وكان زوجها الكاهن لا يدخل الكنيسة ويديه فارغتين.
وفيما هي تفكر هكذا، إذ برجلها يدخل البيت، ويرى فيها شكلًا جديدًا، كأنه لم ينظرها قط بمثل هذه الصورة البهية التي كانت عليها، مع أنها كانت على الدوام، وهي جميلة المنظر جدًا، لا تنقطع البشاشة عن وجهها، ولا يرتفع صوتها الهادئ مهما كانت الظروف. لكنه في هذا اليوم رآها كملاك اللَّه.
سلّم الأب عليها، وبلطف قالت له:
"أبي الحبيب. لقد خطر بي فكر أودّ أن أعرضه عليك، إن حسن في عينيك افعله، وإلا فارفضه".
- خير يا أختي.
- خير يا أبي. وهبنا اللَّه مالًا كثيرًا، ونحن الآن ليس لنا ابن يرثنا. ألا ترى معي أنه خير لنا أن نتصدق به على الفقراء والمساكين، ونقدم الباقي للكنيسة؟ أما يلزمنا يا أبي أن نَعتق العبيد والجواري، حتى يعتقنا اللَّه من عبودية الخطية ويعيننا؟
- أختي المباركة. إن مشورتك هذه صالحة وعظيمة. لكن لا تتعجلي، لأن اللَّه يريدنا ألا نُنذر شيئًا ونندم عليه.
- كيف نندم يا أبي على صدقة نقدمها؟ هل نستطيع أن نتصدق بعد موتنا؟! فلنعطِ اليوم، لأن الصدقة هي أعظم من كل شيء.
وإذ سمع الأب جواب زوجته ابتهجت نفسه في داخله وأدرك أن هذه الفكرة ليست مجرد نزعة طارئة، بل علامة حب حقيقي في داخلها. لهذا ركع مع زوجته وهما يتوسلان إلى اللَّه أن يتنازل ويقبل صدقتهما. ثم قاما، وأخذا يوزعان الكثير من ممتلكاتهما على الفقراء، وقسَّما نصيبًا للكنيسة دون أن يُخبرا أحدًا من الشمامسة أو الشعب.
وفى المساء إذ جلسا معًا وهما يتجاذبان حديثًا هادئًا انتهي بدعوتهما للعبيد والجواري كالعادة، حيث يجلس الكل معًا، ويفتح الأب الكتاب المقدس ويقرأ لهم فصلًا منه، يعقبه بكلمة ثم يشتركون معًا في صلاة الأجبية. انتهت الصلاة، وإذ بدأوا يُقبِّلون يد الكاهن لينصرفوا لأعمالهم، طلب أن يجلسوا مرة أخرى. جلس الكل معًا، وكانت الزوجة مبتهجة جدًا كأنها قد تخلصت من ثقل على كتفها، أو وجدت كنزًا لا ينطق به. أما الأب فصار يُخاطب عبيده وجواريه قائلًا:
"أولادي الأعزاء. لقد رأينا بنعمة اللَّه، أنا وزوجتي أن نخبركم عن أمر يخص حياتكم. إننا يا أبنائي نرجو لكم حياة مباركة سعيدة، فقرّرنا أن نُحرِّركم لتعيشوا في حياة الحرية".
ذُهل العبيد لذلك، ولم يعرفوا بماذا يجيبون، إذ لم يكن الأب وزوجته يعاملانهم قط كسادة نحو العبيد، بل كوالدين تجاه أولادهم وبناتهم.
اضغط هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت للمزيد من القصص والتأملات.
مرَّت دقائق سادها صمتٌ كامل، إلى أن بدأ كبير العبيد يقول:
"أبانا الحبيب... وسيدتنا الحنونة... هل أسأنا إليكما حتى تُريدا طردنا؟ إن كنا قد أخطأنا في شيء، فها نحن بين أيديكما، أدِّبانا كيفما شئتما... فإننا نودّ أن نبقى معكما".
ابتسم الأب الكاهن وقال: "لا يا ولدي. لسنا نقصد تأديبكم. إنما نحن نحبكم ونريد تحريركم، حتى يُحررنا اللَّه من خطايانا، ويُعيننا في طريق الخلاص. ونحن يا ولدي سنعطيكم كل احتياجاتكم ونُعينكم في إيجاد عمل لكم".
- أبي. إننا نرجو من محبتك وأُبُوّتك أن تتركانا معكما، فقد تعلَّقت قلوبنا بكما.
- الرب يبارك عليكم يا أولادي ببركة آبائي الكهنة إنني أطلقت سبيلكم. ومن يريد البقاء معي فليبقى كحُر وليس عبدًا.
بحث لهم الأب عن أعمال وساعد الكثيرين في التجارة وبعض الصناعات... ووزّع كل بقية أمواله عليهم.
مع الملاك ميخائيل
مرت سنوات والكاهن وزوجته تغمرهما سعادة داخلية، لكن أمرًا ما أقلق نفس الأب، لذلك بعد ما صلى صلاة نصف الليل، بدأ يناجي ربه قائلًا:
"أيها الرب إلهنا المتحنن.
تطلّع يا رب إلى الكرمة التي غرستها يمينك.
أنظر إلى شعبك وكنيستك، فإن نفوسنا مرة من أجل ما نسمعه عن الملك الجديد، الذي أنكر الإيمان علانية، وجدّف على اسمك القدوس، وعبَدَ الحجارة التي لا تنطق!
لقد هدم مذبحك وبنى معابد للأوثان!
قتل كهنتك وأبرارك، وأحاط نفسه بالسحرة والمشعوذين يكهنون للشيطان في معابد الوثن!
أفسد طهارة نساء كثيرات ونزع عفة الفتيات، حتى صارت المدينة كلها في شر عظيم!
لقد سمعنا يا ربي أن جنوده قد اقتربوا من مدينتنا، فماذا نفعل؟!
أنت حصننا ومعيننا! أنت رجاؤنا وملجأنا!
يا إله رئيس الملائكة ميخائيل، احفظ طهارة شعبك وعفتهم! ربي. إن نفسي بين يديك، لكن احفظ طهارة بنات شعبك وزوجتي حتى لا يبطش بهم هذا الشرير الوثني".
لم تمضِ ساعات حتى قام الرجل وزوجته على أصوات ضوضاء شديدة، في وسط ظلامٍ قاتمٍ. قام (عطية اللَّه) وزوجته (مختارة اللَّه)، وخرج الأب يرى ماذا جرى بشعبه. رآه الجنود فتركَّزت أنظارهم عليه، فهرب، والجنود وراءه يحاولون تصويب حرابهم ضده. ألقى بنفسه في مجرى ماء أمامه، ووقف الجنود ينتظرون خروجه لقتله بالحِراب.
صرخ الرجل وهو في عمق المياه قائلًا:
"يا إله رئيس الملائكة ميخائيل أعني وكل شعبك.
أين هي عجائبك يا ميخائيل؟!
لماذا تركتني في ساعة الموت؟!
هوذا اليوم يوم ضيق وشدة!"
هكذا كان يصرخ الرجل في عمق المياه، ولم يكن يدري أن الملاك ميخائيل يظلِّل حوله كخيمة تحميه من الغرق.
خرج الكاهن بعد ساعات، ليجد الجند قد تركوه إذ حسبوه قد غرق. سار إلى مدينته، وإذ به يرى مناظر مؤلمة، إذ سلب الجند أموال الكثيرين، لكنهم لم يأسروا أحدًا سوى زوجته. انهار الرجل أمام منظر شعبه وضيقة نفوسهم، واغتمَّت نفسه جدًا من أجل زوجته التي كانت جميلة جدًا، فأدرك أن الجند أخذوها للملك المُفسد لعفة الكثيرات.
دخل الرجل إلى الكنيسة وبكى بكاءًا مُرًا، مخاطبًا إلهه قائلًا:
"ليتك سمحت بموتي وغرقي، ولا أرى ضيقة أولادي وإفساد عفة زوجتي. هل يا رب قد سمحت أن تأخذ إناءك الطاهر القدوس ليفسده عابد الوثن الشرير؟! ألا تستطيع يدك أن تُخلص وتنقذ؟!
من أجل صلوات قديسيك وملائكتك أذكرها وكل شعبك".
وفيما هو يبكي إذا بشعاع الرجاء يخترق قلبه، فتطمئن نفسه جدًا بالرب ضابط الكل صانع الخيرات. أدرك الأب أن جميع الأمور تعمل معًا للخير للذين يحبونه، فكرّس وقته كله في خدمة المتألمين وتعزية الحزانى وقيادة كل نفس في طريق خلاصها.
وفى أحد الأيام بينما كان يبخر وسط الشعب ويضع صليبه على رأس كل واحد، إذ به يرى ملكة تلبس ثيابًا لم يرَ مثلها، تتحلى بجواهر وحُليّ لا يُقدر ثمنها، فباركها الأب مثل أخواتها وعاد إلى خدمته.
وبعد نهاية الصلاة، إذ كان يتعرف على الغرباء، ذهب إليها يسألها عن اسمها وبلدها.
- من أنت يا سيدتي، فإنني أراك كملكة صاحبة كرامة عظيمة؟
- حقًا إنني ملكة، وقد خلصني ملاك اللَّه من يد الملك الشرير الذي أراد اغتصابي.
- ولماذا أتيتِ إلى هنا؟
- لقد سمعت أن زوجتك سباها الملك، فأتيت لأكون زوجة لك.
رشم الأب نفسه بعلامة الصليب وانتهر المرأة بعنف قائلًا:
- ما هذا الفكر الشيطاني يا ابنتي. هل يتزوج الكاهن مرة أخرى؟ إنني أؤمن أن اللَّه حافظ زوجتي وسيُعيدها لي.
- إن كان هذا إيمانك فسيردها اللَّه القدير.
- قولي لي من أنت؟
أما هي فكشفت قِناع وجهها وهي تقول "إنني زوجتك... انظر يا سيدي فإنني جاريتك. أنا مختارة اللَّه زوجتك!"
وللحال قام الأب وقبَّل رأسها، وصاح قائلًا: "أين كنتِ يا أختي؟ وما هو حالك؟ وما الذي أتى بك إلى هنا؟"
أجابته بابتسامة لطيفة: "إرادة اللَّه يا أبي قد حفَظَتني، وبصلاتك أتيت إلى هنا".
وفى سرعة البرق انتشر خبر مجيء المرأة، فاجتمعت المدينة كلها تشكر اللَّه وتمجده من أجل سلامة عودتها. وفى الغروب امتلأت الكنيسة بالشعب كله، حيث رفع الأب صلاة الشكر للَّه، وبعد صلاة رفع بخور، قُدم تمجيد لرئيس الملائكة ميخائيل كطلب زوجته، ثم عاد إلى بيته.
وفى البيت جلس الاثنان يسبحان اللَّه ويمجدانه، وكان كل منهما يسأل الآخر عمّا حدث له.
قال الرجل: "لعلّكِ تذكرين ذلك اليوم المشئوم، فقد جريت، ومن غير أن أدري ألقيت بنفسي في مجرى ماء. كنت أصرخ في وسط الماء. ولما خرجت ظهر لي رئيس الملائكة ميخائيل، وقال لي: لقد أتيت إليك وظلّلت حولك مثل الخيمة من أجل الثمرة التي تخرج منك، وأنا أكون حافظًا لها. من أجل هذا الصبي خلّصتك من الغرق. وحدثني يا أختي حديثًا عجيبًا عن هذا الصبي الذي يهبنا اللَّه إيّاه، ثم أعادني إلى الكنيسة حيث لم أجدكِ وسط الشعب".
أما هي فبدأت تروي له ما جرى لها فقالت: "أما أنا يا أبي فقد حاولت الهروب، لكن بعد ساعات عاد الجنود إلى المدينة، وربما بعدما تأكدوا أنكَ قد غرقت، وصاروا يضربون وينهبون ويسلبون حتى رأوني، وقالوا: لقد وجدنا أثمن هدية يكافئنا عليها الملك مكافأة جزيلة. لقد رأينا سيدة يُسر بها الملك جدًا. وللحال أمسكوني، ولو أنهم عاملوني بلطفٍ زائدٍ، كأنني ملكة في أعينهم، لكنني لم أدرِ إلا والأرض كلها تدور بي، اشتهيت الموت من عمق قلبي فلم أجده. حاولت التخلص لكن بغير جدوى. طلبت مهلة فلم يمهلونني. حملوني على بغالهم وهم يصيحون بالأغاني الوثنية، هاتفين ومسبحين آلهتهم التي أتت إليهم بحقارتي، لينالوا كرامات وعطايا من الملك بسببي. كانوا يُكثرون السؤال طالبين أن يخدمونني، يخافون علىَّ كأني شيء عظيم، يتوسّلون إليَّ أن أطلب شيئًا، أما أنا فكنت كطفلٍ تائه في قفرٍ فسيحٍ بلا معين، وفى مرارة نفسي كنت أُصلي إلى مخلصي يسوع طالبة شفاعات رئيس الملائكة ميخائيل عني.
ساروا بي حتى اقتربوا إلى مدينة الملك، وكانوا يهنئونني أنني بعد قليل أصير ملكة، فلم أكن أُبالي بأقوالهم. وإذ سرى الخبر سريعًا إلى الملك، أراد مقابلتي، فأدخلوني في القصر، وقدّموا لي ثيابًا فاخرة وحُليّ وجواهر كثيرة، ثم أدخلوني إلى حيث الملك، وكان الكل يُحيِّيني، أما أنا فلم تجف دموعي من على خدّي، ولم يصمت قلبي عن الصراخ.
قابلَني الملك ببشاشة وابتهاج وسُرّت نفسه بي، لكنه لم يلمسني قط بل أمر أن يُكرمني بألا يتزوجني إلا في مدينة الآلهة. أمر الجنود أن يذهبوا بي إليها لأتهيأ هناك وفى اليوم الثالث يأتي الملك ويتزوجني في حفل رسمي عظيم.
أمر الملك بإعداد ولائم لا تُحصى وإعداد أمور لم أكن انشغل بها يا أبي ولا حتى أنصت إليها. أخذوني إلى مدينة الآلهة. وفى حزني لم أكن آكل أو أشرب.
.
وفى ليلة مجيء الملك نام الكل من كثرة التعب، أما أنا فلم أذق طعم الراحة. خلعتُ ثيابهم (الثمينة)، ولبست ثوبي القديم، ورفعت صوتي باكية. كنت أقول:
"يا ربي يسوع المسيح.
لماذا نظرت إلى جهالاتي، ولم تنظر إلى عبادة عبدك "عطية اللَّه" زوجي الذي يخدمك بقلب طاهر؟!
كيف تُسلمني إلى الأشرار عبدة الأصنام الذين لا يعرفون اسمك؟!
كنت أطلب منك أن تمنحني ثمرة من كاهنٍ طاهرٍ، ابن كهنة، فهل تسمح أن تعطيني ثمرة من وثنيٍ، لا يعرف اسمك القدوس؟
كنتُ يا أبي أصرخ في نفسي كثيرًا وأقول:
"أيها الرب الإله، رب الخليقة، القادر على كل شيء، الكائن في كل مكان.
أنت بعظمة لاهوتك خلّصت دانيال من أفواه الأسود، وخلّصت الثلاثة فتية من أتون النار.
أنت هو الألف والياء، الأول والآخر. اظهر قوتك يا رب وخلاصك. ولا تطرح عبدتك فريسة في أفواه الوحوش.
وأنت يا ملاك ميخائيل لماذا تخلّيت عني وأنا في هذه الشدة؟!
أين العهد الذي بينك وبيني، إنك لا تتخلى عني وأنا أصنع تذكارك في كل اثني عشر من كل شهر؟!
يا ملاك الرأفة والرحمة لا تغفل عن أَمَتك المسكينة. ساعدني وأنقذني".
وإذ انهارت قواي لم أستطع الوقوف فارتميت راكعة ومستندة على كرسي بجواري، وإذا بي أفكر في العُرس السماوي. كنت أعاتب عريسي السماوي، هل سيسمح أن يتركني وسط هذا الشر ويحرمني من أمجاد السماء. كنت انظر يا أبي إلى القصر كسجنٍ مظلمٍ، واللآلئ كقيود ثقيلة والطعام كسُم مميت. لم أكن أطيق شيئًا من هذا كله.
كلما مرت الدقائق واقترب الصباح يزداد بكائي، وإذا بي أقوم مرة أخرى لأصلي. وفيما أنا أصلي إذا بنورٍ شديدٍ يبرق حولي، فابتهجت نفسي جدًا، ورأيت حبيبي الملاك ميخائيل. فارتدّت نفسي فيَ، وسمعته يقول لي: "اعلمي أن هذه التجارب لم تأتِ عليكِ لهلاكك، إنما لينظر اللَّه إلى صبرك، ويظهر عجائبه فيكِ. ولا يكون إنقاذك من أجلك وحدك، إنما من أجل الابن الذي يولد منك”. واختفى الملاك واطمأنت نفسي جدًا.
وفى الصباح حضر الملك واستدعى كهنة الأوثان والسحرة ليقدموا ذبائح وتقدمات بمناسبة زواج الملك. ولما احتشد المعبد جدًا أُدخِلتُ إلى جوار الملك، وإذا بالأغاني ترتفع داوية في المعبد كله. لكن حدث ما لم يكن في الحسبان. حدث برق شديد ورعد من السماء، فذُهل الكل، وصار اضطراب شديد. وإذا برئيس الملائكة ميخائيل يظهر لي ويأتي بي إلى كنيستنا يا أبي".
ابن مبارك
وفى اليوم التالي من وصولها، بينما كانت المرأة تصلي ليلًا ظهر لها الملاك ميخائيل يبشرها قائلًا: "السلام لكِ يا مختارة اللَّه. اليوم أُبشرك بحمل الولد المبارك، وهو محبوب لدى اللَّه والناس، وعندنا نحن الملائكة. وتكون فضائله كثيرة كنجوم السماء التي لا تُحصى". ثم اختفى الملاك.
وإذ نامت الزوجة رأت في نومها عمودًا من نورٍ في وسط منزلها، ورأسه في السماء، وكل شعب الأرض والملوك ينظرون إليه مندهشين، وفوقه طيور كثيرة تحوم حوله، وبينما هي تتأمل هذا المنظر إذ بها تسمع رجلها يصيح.
فتحت "مختارة اللَّه" عينيها، وأيقظت زوجها وسألته عن سبب صياحه فأجابها: "لقد رأيت يا أختي شمسًا مضيئة جدًا تحت سريرنا الراقدين عليه، وكواكب كثيرة بلا عدد، ونورًا يضيء على الأرض كلها حتى اختفت المدينة كلها من شدة اللمعان".
ولما انتهى من أقواله أخبرته هي أيضًا برؤيتها.
مرت تسعة شهور وولدت الأم ابنها "تكلاهيمانوت" الذي بعد ثلاثة أيام من ميلاده بسط يديه ورفع نظره نحو السماء وقال:
" واحد هو الآب القدوس، واحد هو الابن القدوس، واحد هو الروح القدس". وبعد أربعين يومًا من ميلاده دخل الكاهن ومعه زوجته التي استعدت للتناول، وعمّد الأب ابنه باسم الثالوث القدوس.
وفي الليل ظهر ملاك الرب للأب يعلن له أن هذا هو الطفل الذي بشره به من قبل.
مرّت أيام قلائل وإذ كان الكاهن وزوجته في ضيق مادي لم يستطيعا أن يستعدا لعمل وليمة الفقراء في عيد الملاك كعادتهما. بكَت الأم متوجعة، وصارت تصرخ طالبة من الرب أن يسمح لها أن تقدم أي شيء في هذا العيد المبارك. وفيما هي على هذه الحال وابنها على صدرها، إذ به يمسح دموعها بيديه ويشير إلى طبق به قليل من الدقيق. فأتت بالطبق، وإذ وضع الطفل يده بدأ الدقيق يتدفق حتى بدأ يسقط على الأرض. أحضرت الأم كل ما لديها من مقاطف فامتلأت دقيقًا، ثم أتت إليه بجرار السمن والزيت والعسل، وإذ كان الطفل يضع يديه عليها امتلأت الجرار. وهكذا صنعت السيدة وليمة عظيمة للفقراء تذكارًا لرئيس الملائكة ميخائيل...
حياة تكلاهيمانوت في سطور
* عندما بلغ عمره سبع سنوات علّمه والده قراءة المزامير والكتب المقدسة وكتب الكنيسة، وكان يحفظ ما يقرأه عن ظهر قلب.
* كان محبًا للصلاة والصوم باتضاع ومثابرة عجيبة.
* رسمه الأنبا كيرلس مطران الحبشة شماسًا وهو في الخامسة عشر من عمره، في أيام البابا بنيامين. وكان قد ظهر للمطران ملاك يخبره عنه أنه مختار لملكوت السموات وهو عظيم أمام الرب... وأنه سيسيمه شماسًا". وقد تحقق ذلك وبقى 20 يوما عند المطران ثم عاد إلى بلده.
* وفى الطريق تعرض له أحد الأشرار وضربه، فاستنجد بالملاك ميخائيل فأصابه ضرر. لكنه في ترفق وحنان صلى من أجله، فأتى الرجل بسرعة وخرّ أمامه فرفعه القديس.
* زوَّجاه والداه أحد بنات عظماء المدينة جبرًا، لكنه إذ كان قد سلّم نفسه عروسًا للرب، وّد أن يُبقي بنفسه وجسده بتولًا، فاتفق مع زوجته وبقيا بِكْرين حتى يوم انتقالها.
* رُسم كاهنًا على يد الأنبا كيرلس وبعد مدة يسيرة انتقلت "مختارة اللَّه" في 22 مسرى، وانتقل أبيه بعدها بأربعة أيام أي في 26 مسرى.