اعتاد ماجد أن يحضر الخدم الإلهيّة بتواتر، فكان يقف
في إحدى زوايا الكنيسة ويمسك بيده دفترًا صغيرًا وقلمًا
دون أن يشعر به أحد، ثمّ يراقب كلّ داخل إلى الكنيسة وخارج منها
وأين يقف وكيف يصلّي وماذا يقول في صلواته
إن أمكن له أن يسمعه. وعندما يعود إلى البيت
كان يدخل إلى غرفته، ويفتح الدفتر، ثمّ يقارن
بين ما نطق هذا الإنسان من صلوات وبين سلوكه
خلال الأسبوع الفائت إن كان معه أو مع غيره.
علم والده بما يعمل، فوبّخه على فضوله
ومراقبته للناس وإدانته لهم، ولكنّ ماجد برّر عمله قائلاً:
- يجب أن أراقبه لكي لا يخدعني ويمثّل عليّ
دور القدّيس بينما هو إنسان مخادع.
- وكيف تعرف أنّه مخادع؟
- أراقب تصرّفاته وأحكم عليها.
- أتريد أنت أن يراقبك أحد وأن يحكم عليك؟
- يا ولدي، إنّ تصرّفك غير مقبول مسيحيًّا، والربّ لا يرضى عنه
لا بل إنّه خطيئة كبيرة يجب أن تعترف بها.
ثمّ افترض أنّ هذا الإنسان فعلاً مخادع ومرائي لا تنطبق
أقواله مع صلواته، أتعتقد أنّ الله لا يراه عندما يخطئ؟
- طبعًا يراه.
- ألا يطيل أناته عليه، وينتظره كي يصلح نفسه؟
- ...
- إذًا، يا ماجد، انتبه لنفسك، فقط، فالله لن يسألك إلاّ عنها يوم الدينونة.
لم يقتنع ماجد بما قاله له والده، واستمرّ على
هذه العادة السيّئة، ففقد سلامه الداخليّ وفرحه وراحته
وفقد محبّته للناس، وفقد، أيضًا، محبّتهم له
إذ صار الجميع يبتعدون عنه.
مرّت الأيّام، وماجد لا يزال على عادته هذه إلى أن مرض مرضًا ثقيلاً
ولزم الفراش لأسابيع متعدّدة.
ثمّ ما لبث أن دخل المستشفى وتعرّض لعمليّة جراحيّة كبيرة
وأخذت، يومًا بعد يوم، تزداد حالته الصحّيّة سوءًا، وخاف أن يموت
فطلب من والده أن يأتي كاهن الرعيّة ويصلّي له ويباركه.
وفعلاً جاء الكاهن، وبدأ بالصلاة من أجل صحّة ماجد الجسديّة والروحيّة.
ولكنّ ماجد نظر إلى الكاهن نظرات ملؤها الشكّ
وبدأ يتساءل في داخله: "تُرى هل حقًّا يصلّي هذا الكاهن
أم إنّه يقوم بعمله كواجب فقط؟".
ثبّت ماجد عينيه في وجه الكاهن، وكأنّه يريد أن يفحص أعماقه
ولكنّه انذهل أشد الانذهال عندما رأى دمعة حبّ تنحدر ببطء
على وجنة الكاهن، الذي أمسك بيد ماجد بحرارة، وقال له:
- لقد افتقدتك كثيرًا في هذه الأيّام في الكنيسة
فأنا معتاد أن أراك مختبئًا خلف العمود تصلّي بعيدًا عن أعين الناس.
كم أسأل الله ليردّ لك صحّتك لتشاركنا الصلوات والطلبات من أجل العالم كلّه.
- أنا، يا أبانا، أختبئ خلف العمود وأصلّي؟!!
- نعم، يا ابني، أليس كذلك؟
فوجئ ماجد بسؤال الكاهن، وأحسّ وكأنّ حربة اخترقته
كما أثّرت به دمعة هذا الأب الطيّب المُحبّ، وتحقّق
أنّ هناك أشخاصًا يحبّونه محبّة صادقة حقيقيّة
ويرغبون بشفائه لا جسديًّا فقط، بل وروحيًّا أيضًا.
فنظر إلى الكاهن، وقال له بانسحاق:
- أودّ أن أعترف، يا أبانا، فأنا إنسان شرّير خاطئ.
كم وكم نصحني والدي أن أبتعد عن عاداتي السيّئة
ولكنّي، للأسف، لم أنصع لمشورته.
- كلّنا نخطئ، يا ابني، والله ينتظر توبتنا جميعًا عن زلاّتنا.
ليس المهمّ، فقط، ألاّ تخطئ، بل المهمّ ألاّ تستمرّ في الخطأ.
اعترف ماجد، ووعد الكاهن، إن سمح الله وشفاه
بالعودة إلى أحضان الكنيسة بصدق ومحبّة حقيقيّة، ليشترك
فعليًّا، مع إخوته الآخرين بالصلاة من أجل العالم أجمع.
وهكذا تحوّلت حياته من انتقاد لاذع وإدانة ذميمة إلى محبّة صادقة حقيقيّة.