شرح القداس الالهي 6 متروبوليت بولس يازجي
قانون الشكر أو الكلام الجوهري
بعد انتهاء الطلبات يقف الكاهن في الباب الملوكي ويمنح السلام والبركة للشعب قائلاً:
“السلام لجميعكم”، مفتتحاً بذلك قانون الشكر أو ما يعرف بالكلام الجوهري.
الكاهن يمنحنا سلام الله، لأنه جيد أن نكون في حالة سلام مع الله
ومع الآخرين ومع أنفسنا في هذه اللحظات المقدسة.
ثم يعلن الكاهن
“لنحب بعضنا بعضاً لكي نعترف بعزم واحد مقرين، ويجيب الشعب:
“بآب وابن وروح قدس، ثالوث متساوٍ في الجوهر وغير منفصل”
. في القديم كان الشعب عند هذا الإعلان يتبادلون القبلة المقدسة، كما يقول بولس الرسول:
“سلّموا بعضكم على بعض بقبلة مقدسة” (رومية16:16)،
ويرددون خلالها: المسيح معنا وفيما بيننا كان وكائن ويكون.
هذا الترتيب مازال محفوظاً إلى يومنا هذا بين الكهنة في الهيكل
. فبسبب محبة المسيح التي فينا لا يسعنا إلا أن نحب الغريب
الذي يقف بجانبنا الذي سيشاركنا هذه الكأس الواحدة.
الدعوة إلى المحبة بيننا تفتتح الكلام الجوهري الذي نستعد فيه للمناولة،
فالمحبة ليست موضوعاً نظرياً، بل عمل يترجم بأفعال محبة نؤكد فيها للعالم
أننا فعلاً جسد واحد هو جسد المسيح، وأن المسيح حاضر بالحقيقة معنا وفيما بيننا.
الأمر الثاني المهم في هذا الإعلان هو ارتباط إعلان محبتنا لبعضنا بإقرار إيماننا بالثالوث القدوس.
وعت الكنيسة أن الشرط الأساسي للفكر الواحد، الذي يطلبه منا المسيح،
هو المحبة التي هي على صورة محبة المسيح لنا،
على صورة محبة الثالوث الأقدس الذي نعلن إيماننا به.
المحبة والإيمان بالثالوث الأقدس مرتبطان. فكما أن الثالوث هو في وحدة نابعة من محبة سرمدية
هكذا يجب أن نكون في محبة بعضنا كما الثالوث لنصير واحداً في المسيح.
وكما أن المحبة شرط أساسي لاشتراكنا بالذبيحة الإلهية، كذلك إيماننا المشترك الواحد
بالثالوث هو شرط أساسي لهذه المشاركة.
الإيمان المشترك الواضح هو الركيزة الأساسية للمناولة المشتركة
لذا يأتي تشديدنا على وحدة الإيمان في الكنيسة قبل المناولة المشتركة.
المناولة المشتركة مع الآخرين هي تتويج لعملية الوحدة الإيمانية وليست وسيلة للوصول إلى الوحدة.
دستور الإيمان
عند انتهاء ترتيل “بآبٍ وابن وروح…” يعلن الكاهن:
“الأبواب، الأبواب بحكمة لنصغ”
ويتلو الشعب دستور الإيمان:
“أؤمن بإله واحد..”.
في القديم، كان الاعلان:
“الأبواب الأبواب”
تنبيهاً لحافظي أبواب الكنيسة كي يتيقظوا ولا يسمحوا لأي من الموعوظين
الذين يستعدون للمعمودية بالدخول إلى الكنيسة بعد هذا الإعلان،
لأنه يحق للمعمدين فقط الاشتراك في الذبيحة الإلهية.
اليوم، يدعونا الإعلان إلى إغلاق كل الأبواب المؤدية إلى قلوبنا
والتي قد يدخل عبرها أي فكر شرير يعرقل اشتراكنا بجسد ودم الرب أو يمنعه،
وإلى فتح ذهننا لكي نعي هذا الإيمان الذي نحن مزمعون أن نعلنه.
أما دستور الإيمان فهو بالتحديد اعلان النقاط الأساسية للعقيدة والإيمان المستقيم الرأي (الأرثوذكسي)
حول الآب والابن والروح القدس والكنيسة والمعمودية وقيامة الموتى والحياة في الدهر الآتي.
وقد أُدخل هذا الدستور إلى القداس الإلهي في بدايات القرن السادس
لأن الكنيسة تعي أن وحدة الإيمان بين الجماعة الكنسية أمر بديهي لابد منه،
وإن هذه الوحدة شرط أساسي للمناولة المشتركة. هكذا يتضح لنا وصف القديس اغناطيوس الأنطاكي
لسر الكنيسة على أنها سر الوحدة بالإيمان والمحبة (مغنيسية2:1)
“لأن القلب يؤمَن به لله والفم يُعترف به للخلاص”(رومية1:10)،
لذلك في كل قداس إلهي نعترف
“بفم واحد وقلب واحد”
بإيماننا ونعلن استعدادنا لتقبّل هذا الإله الذي نعترف به في دستور الإيمان داخلنا.
أثناء تلاوة دستور الإيمان يرفع الكاهن الستر الكبير الذي يغطي به الكأس والصينية
ويرفرف به فوقهما ويتلو دستور الإيمان.
هذه الرفرفة هي صورة للزلزلة التي سبقت قيامة الرب.
يرفرف به إلى أن نصل إلى
“وقام من بين الأموات”
حيث يضعه جانباً صورة لدحرجة الحجر عن باب القبر.
ثم يأخذ الستر الصغير ويرفرف به حول القرابين رمزاً لرفرفة الروح القدس،
هذا الروح الذي سيحل على القرابين لتستحيل إلى جسد المسيح ودمه.
بعد الانتهاء من تلاوة دستور الايمان يعلن الكاهن:
“لنقف حسناً، لنقف بخوفٍ لنصغِ، لنقدم بسلام القربان المقدس”.
في هذه اللحظات الرهيبة علينا ان نكون في حالة استعداد وخشوع ورهبة،
نفساً وجسداً، لنقدّم القربان المقدس.
يجب أن نقف وقفة استعداد شاخصين نحو الملك السماوي وقائلين:
“قلبي مستعد يا الله” (مز7:75)،
ومرددين مع بطرس الرسول على جبل ثابور:
“يا رب جيد أن نكون ههنا” (متى3:17)
الرب يتجلّى لنا في القداس الإلهي عبر جسده ودمه الكريمين.
يجيب الشعب:
“رحمة سلام ذبيحة تسبيح” قال الرب: “أريد رحمة لا ذبيحة” (مت13:9)
فالذبيحة بدون رحمة لا معنى لها.
الذبيحة المرضية لله هي تلك الصادرة من القلوب المملوءة رحمة ومحبة وسلاماً.
لكي نكون مستعدين لتقديم القرابين نحن بحاجة إلى النعمة الإلهية.
اذا ما يمنحنا إياه الكاهن:
“نعمة ربنا يسوع المسيح ومحبة الله الآب وشركة الروح القدس لتكن مع جميعكم” (2كو7:13).
هذا الإعلان إشارة إلى مساهمة كل من الأقانيم الثلاثة في العمل الخلاصي،
فالآب من أجل محبته للبشر أرسل ابنه الوحيد لخلاص العالم،
والابن بتجسده وصلبه وموته وقيامته وصعوده أعطانا نعمة الفداء،
التي تعطى لنا بالروح القدس الذي يسكن فينا بالمعمودية والأسرار الأخرى
ويجعل بيننا وبينه شركة إذ يجعلنا هياكل له. يقول الرسول بولس أننا في المسيح يسوع حصلنا على الخلاص
الذي به “لنا سلام مع الله.. والذي به أيضاً صار لناالدخول بالإيمان إلى هذه النعمة” (رو5: 1-2).
“لا أحد يأتي للآب إلا بي” (يو6:14) ''
لذلك وضع الرسول بولس نعمة ربنا يسوع المسيح في بداية الاعلان.
ثم يحثنا الكاهن “لنضع قلوبنا فوق”.
دعوة الكاهن لنا أن يكون الله كنزنا وأن نعطيه قلبنا.
“يا بني اعطني قلبك” (أمثال26:23).
يجيب الشعب على هذه الدعوة: “هي لنا عند الرب”.
نطرح عنا كل خطيئة واهتمام أرضي ونرتفع بقلبنا إلى الله.
ويردف الكاهن قائلاً: “لنشكرن الرب”،
ألا يسمى القداس الإلهي سر الشكر! فالذبيحة هي ذبيحة شكر لله على كل ما أعطانا.
ويجيب الشعب على هذه الدعوة بالقول: “لحق وواجب أن نسجد لآب وابن وروح قدس ..”.
سجودنا للثالوث هو التعبير الوحيد عن شكرنا لله على كل ما أعطانا.
إن معرفة الله تستحيل علينا دون شكره.
فبعدما تمّ كل شيء، أي بعد منح غفران الخطايا وكسر شوكة الموت،
لم يبق أمام الإنسان إلا أن يسبح ويشكر،
وكأننا مُنحنا الشكر عرفاناً من الله وفرحاً فردوسياً. أثناء ترتيلنا “لحق وواجب…”
يتلو الكاهن صلاة باسم المؤمنين نشكر الله فيها لأنه أخرجنا من العدم إلى الوجود،
ورغم سقوطنا بالخطيئة منحنا الخلاص. ونشكره على كل احساناته الينا الظاهرة وغير الظاهرة.
الإنسان المسيحي هو العبد الشكور ودوماً الذي يؤمن بأن الله يريد خيره
وإن كان هو يجهل كيف يعمل الله، ويؤمن بأن كل عطية صالحة هي من لدن الله.
في نهاية الافشين (صلاة الكاهن) يشكر الكاهن الله لأنه قَبِل ذبيحتنا مع أنه يقف حوله ألوف من الملائكة
“بتسبيح الظفر مرنمين وهاتفين وصارخين وقائلين.” يرتل الشعب :
“قدوس قدوس قدوس رب الصباؤوت (رب القوات السماوية) السماء والأرض مملوءتان من مجدك،..”
القسم الأول من هذا النشيد يذكرنا بالتسبيح الملائكي الذي سمعه اشعياء النبي (أشعياء6)،
حيث الشاروبيم والسارافيم يحيطون بعرش الله ويسبحون على الدوام قائلين قدوس قدوس قدوس رب الصباؤوت
السماء والأرض مملوءتان من مجدك. تسبيح الملائكة هذا يلتقي مع هتاف أطفال أورشليم
وهم يستقبلون الرب في دخوله إلى أورشليم: “أوصنا في الأعالي مبارك الآتي باسم الرب” (مت9:21).
كلمة “أوصنا” هي كلمة عبرية وتقابلها بالسرياني “هوشعنا” وتعني “خلصنا يا من في الأعالي”.
نصرخ نحو الآب متضرعين أن يمنحنا الخلاص مقرين معترفين ومباركين المسيح
الآتي باسمه الذي سوف نستقبله على المائدة المقدسة بعد قليل،
بل وسنستقبله كالأطفال في داخلنا ونتحد به عبر المناولة.
دمج النشيد الملائكي مع البشري إشارة إلى أن السماء والأرض اتحدتا بتجسد المسيح
. في القداس الإلهي ندخل الملكوت، والملائكة تخدم معنا ونحن نردد تسبيحهم كالأطفال
بقلوب نقية طاهرة لأنه إن لم نعد كالأطفال فلن ندخل ملكوت السماوات (مت3:18)
في القداس الإلهي تصير الكنيسة السماء على الأرض.
أثناء ترتيل هذا النشيد يتلو الكاهن صلاة باسم كل الشعب الواقف حوله
يقر فيها ويعترف بقداسة الله ومجده. هذا التذكر لما صنعه الله معنا ليس مجرد عرض بسيط
للأحداث الخلاصية كفيلم سينمائي، إنما هو أحياء لهذه الأحداث
وكأنها حاصلة الآن ونشكل جزءاً منها.
لذلك يكرر الكاهن في كل قداس هذا التذكر لكي نحياها في كل قداس إلهي.
في نهاية الافشين يعلن الكاهن وهو يشير إلى الحمل (القربان) الموضوع على الصينية
الذي سيستحيل إلى جسد الرب يسوع بحلول الروح القدس عليه:
“خذوا كلوا هذا هو جسدي…” ويجيب الشعب آمين، أي حقاً.
ثم يشير إلى الكأس قائلاً: “اشربوا منه كلكم …”.
نحن الآن فعلاً على مائدة العشاء السري، مائدة الملكوت،
مع الرب ورسله ونسمع صوت الرب يقول
“خذوا كلوا …اشربوا”.