الشعوب القديمة وإعلان الله عن نفسه عبر مخلوقاته
الأب الدكتور جورج عطية
استاذ العقائد - جامعة البلمند
لا ينكر احد التأثير القوي للطبيعة على الإنسان من جهة اعتقاداته الدينية، ولكنه يصعب كثيراً رصد هذا التأثير بدقة على الإنسان البدائي، ومنه تصور موقفه تجاه بعض الظواهر الفائقة الغرابة بالنسبة له، كالسماء المرصعة بالأضواء ليلاً، وما يبدو من تحركات الشمس والقمر والكواكب والسحب، أو مفاجآت المطار والبروق والرعود والأعاصير، أو تنوع الحيوانات والنباتات، أو حتمية الموت، أو غموض الأحلام ... إلخ. الأصعب من هذا تصور موقفه الحقيقي وهو يلتمس في ظلمة جهله باحثاً عن اجوبة لمسائل كثيرة تطرح نفسها عليه وهو لا يجد لها تعليلاً، ومنها سبب ومعنى وجود كل هذه المخلوقات التي امامه ومنها وجوده هو نفسه، وكيف انتقل من هذه التساؤلات إلى إعطاء أجوبة عبر الأساطير والإعتقادات الدينية التي صار يتناقلها.
أهمية إعلان الله عبر خليقته رغم تشوه استقباله بعد سقوط الإنسان تؤكدها يوماً بعد يوم الحقيقة التي لاحظها المفكر الروماني بلوتارك منذ حوالي ألفي سنة " قد نجد مدناً دون أسوار ودون ملوك ودون أبنية ودون نقود ودون مسارح أو ملاعب، إلا أننا لن نجد مدينة واحدة دون معبد ودون إله، أو لا تلجأ إلى الصلاة والتعويذات والذبائح من أجل الخير ... ". مقابل هذا الإجماع الغريب الذي شمل كل شعوب الأرض دون استثناء في أي زمان ومكان وجدوا على الإيمان بألوهية ما وبحياة ما بعد الموت، نلاحظ الدور الخاص للإنسان الساقط في تكوين آرائه الدينية وتأثير البيئة عليه. فمثلاً في الديانة المصرية القديمة نجد أن الشمس وهي أبرز الظواهر الطبيعية في مصر تُسند قيادتها إلى " رع " كبير آلهة المصريين، بينما يتولى " زفس " كبير الآلهة عند اليونان قيادة البرق والرعد والمطر، لأنها الأشد تأثيراً في جو اوروبا...
سفر الحكمة يولي أهمية كبرى لدور الخلائق المنظورة، لكنه يتعجّب من حقائق الذين ألّهوها ولم يقدروا ان يفرقوا خالقها من خلالها، فيقول " إن جميع الذين لم يعرفوا الله هم حمقى من طبعهم، لم يقدروا ان يعلموا الكائن من الخيرات المنظورة، ولم يتاملوا المصنوعات حتى يوفوا صانعها، ولكنهم حسبوا النار أو الريح أو الهواء اللطيف أو مدار النجوم أو لجّة المياه أو نيري السماء آلهة تسود العالم. فإن كانوا إنما اعتقدوا هذه آلهة إلا لأنهم خُلبوا بجمالها، فليتعرفوا كم ربها احسن منها، أي الذي خلقها، هو مبدأ كل جمال. أو لأنهم دهشوا من قوتها وفعلها فليتفهموا كم منشؤها أقوى منها " ( حك13: 1-4 ).
إلى جانب ما يسميه سفر الحكمة حماقة تعكس الديانات القديمة أيضاً فساد الأخلاق وظلمة النفوس، تفضحها الأساطير المنسوجة حول آلهتها من طمع وشهوانية وشذوذ وأنانية وحقد ومؤامرات إلخ ... ".
القديس بولس يربط بوضوح بين حماقة الأفكار وظلمة القلب التي أدت إلى العبادات الوثنية من جهة، وبين الشهوات والنجاسة التي تنتج عن هذه العبادات من جهة أخرى " لأنهم لما عرفوا الله لم يمجدوه أو يشكروه كإله، بل حمقوا في أفكارهم وأظلم قلبهم الغبي. وبينما هم يزعمون أنهم حكماء صاروا جهلاء وأبدلوا مجد الله الذي لا يفنى بشبه صورة الإنسان الذي يفنى والطيور والدواب والزحافات، لذلك أسلمهم الله أيضاً في شهوات قلوبهم إلى النجاسة لإهانة اجسادهم بين ذواتهم " ( رو1: 21 -24 ).
على هذا النحو بدا وكأن إعلان الله من خلال خليقته لم يكن مجدياً للقدماء عامةً . ومع ذلك فالأفكار الإيجابية والمباديء الأخلاقية الجديرة بالإحترام عند عدد من المفكرين والمصلحين في بعض الأمم الوثنية مع انتظار عام لمخلص سماوي، إضافة إلى التأملات الفلسفية البنّاءة المتعلقة بالألوهة، ومنها على سبيل المثال البراهين التي أعطاها بعض الفلاسفة مثل سقراط وأفلاطون وأرسطو على وجود الإله الواحد وصفاته. كل هذا يدل على أن اخبار الطبيعة عن مجد خالقها وعن صفاته لم يبقَ كلياً بلا ثمر، بل ساعد في التهيئة التي بثّها الله بطرقه الخفية إلى جانب إعلانه عبر أنبياء العهد القديم، لكي يسهل على الأمم تقبل إعلان الله بيسوع المسيح حين يأتي ملء الزمان.