العذارء مريم
لا نعرف في الفن البيزنطي مريم معزولة عن الطفل لأن شرف أمومتها معه وتقديسها له حتى تبدو مصطفاة على نساء العالمين. في لحظة من الدهر حصل فرز فتاة من ناصرة الجليل القرية المهملة في تاريخ النبؤة، فتاة يفتقد بها الله جنس البشر ببعث ابنه اليها متجسدا فيها بالروح القدس. هيأها الله لاقتبال ابنه وأعرب الله عن اختياره لها بالبشارة على كونها مخطوبة لرجل يدعى يوسف. لله مشيئته ولكنها غير قسرية. عندما يخبرها جبرائيل انها ستحبل وتلد ابنا وتسميه يسوع وانه سيكون عظيما ويدعى ابن العلي تعجبت ولم تفهم كيف يكون هذا وهي لا تعرف رجلا أخبرها الملاك بأنها ستكون مكان معجزة وان الروح القدس اي روح الله نفسه سيحل عليها وتتم المعجزة.
اذ ذاك، قالت «انا أمة للرب، ليكن لي كقولك». معنى كل هذا انها قبلت مشيئة الرب دون ان تفهم طرقه ولم يتبيّن لأحد انها فهمت فيما بعد بحيث انها ظلّت حاملة للأعجوبة طوال حياتها ولم تفهم كيف حصلت.
كل ما نعرفه عبر القديس صفرونيوس اسقف اورشليم في القرن السابع ان المسيح كان له أب (اي الله) بلا ام وام بلا أب (اي بلا رجل). لم يكشف الرب عن مقاصده في اختراق الطبيعة. أرادنا ان نعبده في مقاصده.
كان يمكن ان نقف هنا لو لم يذهب نسطوريوس بطريرك القسطنطينية في القرن الخامس- على ما نسب اليه في ان هذا الذي كان في احشاء العذراء مفصول عن الأقنوم الثاني من الثالوث القدوس. دحضا للموقف النسطوري انعقد مجمع أفسس السنة 431 الذي سمى مريم والدة الأله ليس انها والدة الطبيعة الإلهية او الخالق ولكن والدة المسيح الذي يحمل صفة الألوهة والتسمية قائمة على اتحاد الطبيعتين الإلهية والانسانية في المسيح وهذا ما يسمى في الصوغ العقدي تداخل الصفات فنقول ان كلمة الله المتجسد مات بمعنى ان الابن في لاهوته قبل الموت ولم يعترِ الموت الوهيته.
قليل الحديث عن مريم في الأناجيل. هذا طبيعي لأن الانجيل كتاب لاهوت عن المسيح وليس كتاب سيرة تدخلها مريم. يأتي الحديث عنها من التراث. في التراث ماتت وهي بشر وجاءت من رجل وامرأة. والعبادات عندنا تقول انها دفنت في اورشليم وانها انتقلت بعد هذا الى السماء. وليس من كلام قبل القرن الخامس انها أصعدت بجسدها الى السماء. هناك عظات تتكلم عن هذا وأناشيد طقوسية ولكن ما صيغت في الكنيسة الأولى غير المنقسمة عقيدة تتعلق بمصير جسدها. حسبنا ان نقول انها ماكثة في المجد الإلهي الذي نناله كاملا بعد القيامة.
هناك مقطع من إنجيل يوحنا لا مجال للعبور عنه وهو الفصل المتعلق بعرس قانا الجليل لما فرغت الخمر قالت مريم ليسوع «ليس لهم خمر». قال لها يسوع «ما لي ولك يا امرأة. لم تأتِ ساعتي بعد» المعنى يمكن ان يكون: «ما علاقتك بي» ويمكن ان يكون: «ما علاقتنا معا بكل هذا الأمر» لأن ساعتي لم تأتِ بعد. هي ساعة الموت والمجد. بعد هذا حوّل الماء خمرا حبا بالمدعويين. المهم في كل هذا الفصل ليس انه أطاعها ولكن كونها وثقت به. هي لم تعتز بنفسها. دورها كان انها هي أطاعته.
من اجمل الكلام الذي قاله ربها وابنها فيها هو ما قاله من أعلى الصليب اذ كانت عند قدميه هي والتلميذ الذي كان يسوع يحبه. في الإنجيل الرابع وردت هذه التسمية عدة مرات والتراث الأول يقول ان يوحنا الانجيلي كان يخفي نفسه خفرا وراء هذه التسمية. ولكن يحق لي أن أتمسك بالمعنى الظاهر لهذه العبارة اذ كانت مريم واقفة مع النساء عند الخشبة وذلك التلميذ الذي كان السيد يحبه. «فلما رأى يسوع امه والتلميذ الذي كان يحبه واقفا قال لأمه يا امرأة هوذا ابنك ثم قال للتلميذ هوذا امك ومن تلك الساعة أخذها التلميذ الى خاصته».
المعنى الظاهر للنص ان كل تلميذ أحبه المخلّص يجعله ابنا لمريم. ما معنى أمومة مريم لكل مؤمن؟ قد تتضح العلاقة اذا قلنا ان من اتخذ ام يسوع الى قلبه. يقيم علاقة وجدانية بينه وبينها لأن بيننا وبين المسيح أخوّة.
بعد القيامة يُذكر أن السيد ظهر لوالدته. هذا ليس في الإنجيل. ولكن القديس غريغوريوس بالاماس قال بذلك. يبقى في العهد الجديد ذكر لها واحد وهو في سفر الأعمال اذ كان الرسل بعد صعود الرب معا في العلية. «هؤلاء هم كانوا يواظبون بنفس واحدة على الصلاة والطلبة مع النساء ومريم ام يسوع واخوته» (14: 1). عطفا على بدء الاصحاح الذي يلي هذا الكلام يبدو ان العذراء كانت مع الرسل يوم العنصرة وأيقونة العنصرة عندنا تصورها بعض المرات في العلية.
وراء التصوير تشير الأيقونة ان العذراء جالسة في وسط الكنيسة. وان الروح القدس الذي حلّ عليها ليصور المسيح فيها هو اياه الذي يصوّره في القداس الإلهي بشكل قرابين.
ثم يستعير سفر الرؤيا صورة العذراء ليتكلّم على الكنيسة اذ يقول: وظهرت آية عظيمة امرأة متسربلة الشمس والقمر تحت رجليها وعلى رأسها اكليل من اثني عشرا كوكبا وهي حبلى تصرخ متمخضة ومتوجعة لتلد... فولدت ابنا ذكرا عتيدا ان يرعى جميع الأمم بعصا من حديد واختطف ولدها الى الله والى عرشه.
لقد أخذ يوحنا الرائي صورة العذراء الأم ليتحدث عن الكنيسة في حال اضطهادها والكنيسة عذراء لكونها عروس الله.
نصوص العهد الجديد التي استندنا اليها لتؤسس تكريمنا لمريم باتت اعترافا دائما بمكانتها في الكنيسة. هذا المقام الذي بلغته جعلها تقول في نشيدها لأليصابات: ان «الله نظر الى تواضع أمته فها منذ الان تطوبني جميع الأجيال». لذلك يخطئ، من يهمش ذكراها ويجعل مرورها على الأرض عابرا. هي في ذروة من نناجي اذ نقول لها في أناشيد المدائح في الصوم الكبير في الطقوس البيزنطية: «يا جامعة الأضداد الى واحد». الأعجوبة ان تلتقي الأمومة والعذرية وهذا ليس فقط في الصورة البيولوجية ولكن في الشكل الروحي. الأمومة للمخلص عطاء والبتولية عطاء. هذه هي المريمية الكاملة التي اذا استلمناها من الله نكون زرعنا الموهبة المريمية في العالم، نكون صرنا مريمات.
واذا قلنا مع المجمع المسكوني الخامس ان مريم هي الدائمة البتولية نفهمها على انها فينا دوام التكريس لله. الانصراف لله كليا هو لكل انسان دوام بتولية اي دوام تخصص لله. مريم نموذج عن ديمومة النقاوة، رفض الخطيئة من أصولها والإصرار على ملازمة الله. امام اعيننا امرأة قال عنها الملاك انها ممتلئة نعمة وترجمتها صلواتنا انها «الكلية القداسة، الفائقة البركات، المجيدة». مشدودون نحن الى حسناتها النازلة عليها من فوق.
أدرك ان يعتري إكرامنا لوالدة الاله وهن او انحراف حتى ترفعها التقوى الشعبية الى مركز يشبه التأليه فلا يذكر المسيح احيانا عند قوم وتذكر العذراء وحدها. تقوى بشرية جدا لا تليق بها وحياد عن المخلص، او شبه حياد. ويحرف بعض البسطاء الايقونة عن استعمالها السليم. اعطنا اللهم الانتباه الصحيح الى ايقونات العذراء ولكن ليس الانتباه الحصري حتى يبقى المخلص المحور الوحيد لتقوانا.
مع الرب يسوع نحن في عبادة. مع العذراء مريم نحن في إكرام ولكنه إكرام ينشئ تقوى لنا قادرة ان تجعلنا مسحاء.