اسقوا بذور الله بدموع التوبة:
"اسمعوا! هوذا الزارع قد خرج ليزرع، وفيما هو يزرع سقط بعض على الطريق، فجاءت طيور السماء وأكلته. وسقط آخر على مكان محجر، حيث لم تكن له تربة كثيرة فنبت حالاً إذ لم يكن له عمق أرض. ولكن لما أشرقت الشمس احترق، وإذ لم يكن له أصل جف. وسقط آخر في الشوك، فطلع الشوك وخنقه فلم يعط ثمراً. وسقط آخر في الأرض الجيدة، فأعطى ثمراً يصعد وينمو، فأتى واحد بثلاثين وآخر بستين وآخر بمئة" (مر4: 3-8).
هكذا أنا خرجت لأبذر كلمة الله في قلوبكم لأنكم حقل الربّ. لكنني زارع مسكين وحقير! وقد تسألون: "لماذا أنت مسكين؟" أليس مسكين وحقير ذاك المزارع الذي لا يملك إلا جزءاً بسيطاً من عُشر الأرض؟ أليس كلام الربّ على لسان النبي إشعياء حينما أرسله الرب للوعظ موجّه إليّ أيضاًً وذلك: "فقال: اذهب وقل لهذا الشعب: اسمعوا سمعاً ولا تفهموا وأبصروا إبصاراً ولا تعرفوا. غلظ قلب هذا الشعب وثقل أذنيه واطمس عينيه لئلا يبصر بعينيه ويسمع بأذنيه ويفهم بقلبه ويرجع فيشفى" (أش 6: 9-10).
كان ينبغي عليّ أن آتي بعشرات الآلاف من الشعب الأرثوذكسي الساكن في أبرشية تامبوف إلى المسيح، لكن هذا الشعب قلبه قد تقسّى وحوّل أذنيه عن سماع وصايا المسيح، وأغلق عينيه لئلا يرى القدسات، ولم يفهم بقلبه ولم يرجع إلى الله ليشفيه. وأنتم فقط، أحبّائي والقريبين مني، القطيع الصغير للمسيح، الذين فتحتم قلوبكم وقبلتم كلمة الله. لكن يوجد بينكم من ينطبق عليهم كلام الله الموجّه إلى النبي حزقيال: "وأنت يا ابن آدم، فإن بني شعبك يتكلمون عليك بجانب الجدران وفي أبواب البيوت ويتكلم الواحد مع الآخر، الرجل مع أخيه قائلين: هلم اسمعوا ما هو الكلام الخارج من عند الرب! ويأتون إليك كما يأتي الشعب، ويجلسون أمامك كشعبي، ويسمعون كلامك ولايعملون به، لأنهم بأفواههم يظهرون أشواقا وقلبهم ذاهب وراء كسبهم. وها أنت لهم كشعر أشواق لجميل الصوت يحسن العزف، فيسمعون كلامك ولا يعملون به" (حز 33: 30-32).
أليس حقير ومثير للشفقة ذاك المزارع الذي يبذر البذار في أرض غير محروثة؟ وأنا في مكانة ذاك المزارع، لأن حقل الربّ كان متروكاً لسنوات عديدة ولم يفلحه أحد، فتقسّت تربة قلوب البشر ولم تنمُ فيها بذار كلمة الله.
لكن لماذا أنا أشكو؟ ولماذا أكدّر قلوبكم؟ "لماذا أنت منحنية يا نفسي؟ ولماذا تئنّين فيَّ؟ ترجّي الله، لأنِّي بعد أحمده، خلاَص وجهي وإلهي"(مز12:41). أليس الله قادر على أن يضاعف عدد رعيتي؟ ألا أعرف تلك الكلمات العجيبة التي قالها الرسول بولس: "كلمة الله حية وفعالة وأمضى من كل سيف ذي حدين، وخارقة إلى مفرق النفس والروح والمفاصل والمخاخ" (عب 4: 12).
أنا أعلم هذا ولذلك سألقي بذار كلمة الله بجرأة حتى في الأرض المتروكة، لأني موقن بأن كلمته قادرة وهي نفسها ستحرث تربة قلوبكم.
وهكذا أنتم، القويين في الإيمان، أنتم عشب الله النابت وزرعه الفتيّ، اسمعوا: خرج الزارع ليزرع وعندما ألقى البذار، حدث أنّ بعضها سقط على جانب الطريق فجاءت الطيور وأكلته. إن الرب يسوع المسيح لم يكلّمنا عن المزارع الذي بذر بذاره على جانب الطريق، بل كلّمنا عن الطريق الواسع الذي يؤدي إلى الهلاك. في هذا الطريق يسعى الكثيرون من الناس مزاحمين بعضهم البعض مسابقين أحدهم الآخر، متعطّشين بأن يبنوا حياتهم في الرفاهية وفي الاكتفاء المادي، متشوّقين للغنى وللمجد، مستهينين بوصايا المسيح، راغبين في أن يعيشوا حياتهم معتمدين على ذكائهم. فيركضون في هذه الطريق المطروقة متناسين الله.
في بعض الأحيان يدخل هؤلاء الناس إلى كنائسنا من باب الفضول ويحدث أن كلمة الله تلمسهم بالصدفة، أو من خلال حديث مع شخص مؤمن يلتقون به فتسقط في نفوسهم بذار المسيح. فترتبك قلوب هؤلاء الناس المنشغلين بمطاردة السعادة الأرضية، وعندها يتوقفون عن ركضهم متردّدين ويفكّرون: هل من الضروري المُضي في هذا الطريق الواسع؟ ألا يجب التفكير في الروح وليس فقط في رفاهية الجسد وفي اكتفاء البيت؟
لكن على هذا الطريق الواسع تطير العديد من الطيور الغير مرئية، أعداء الجنس البشري، قوى الظلام الشيطانية التي قد وقع هؤلاء الناس تحت سيطرتها. هذه القوى تراقب بانتباه لئلا يعيق شيء أعمالهم الظلامية. وعندما تلاحظ هذه القوى بأن الشخص توقّف وتردّد وبأنه قد نوى على التفكير في نفسه، عندها تهجم عليه مثل الطيور المفترسة وتخطف من قلبه كلمة الله المبذورة. هذا ما يُقصد به بأن البذور التي سقطت على جانب الطريق كانت مُداسة ومُستهلكة من الطيور.
وسقط آخر على مكان محجر، حيث لم تكن له تربة كثيرة فنبت حالاً إذ لم يكن له عمق أرض. ولكن لما أشرقت الشمس احترق، وإذ لم يكن له أصل جف ما أكثر الناس الذين يمكن أن نشبّههم بتلك الأرض الصخرية، فإنهم أناس طيّبون وصادقون، تعتريهم الرغبة في عمل الخير، لكن ليس لهم عمق الإحساس والفكر وهم لا يملكون ذاك الكنز العظيم ألا وهو جاهزيّة النفس واستعدادها.
هم غير ثابتين، ينجذبون تارة هنا وتارة هناك، ويأخذون على عاتقهم الأعمال السامية ويكرّسون أنفسهم لخدمة العلم والفن والفلسفة ولكنهم سرعان ما يتركون هذا كلّه وينجذبون لنزوة ثانية تحلّ محل الأولى.
لا تستطيع كلمة الحق الإلهية أن تطلق جذورها العميقة في نفوسهم. لقد قال الربّ عن هؤلاء الناس أنه عندما تأتيهم ضيقة أو تجربة وعندما يجب عليهم أن يتألموا من أجل المسيح، حينئذ يتخلّون عنه بسرعة وبسهولة. هؤلاء الناس عندما تلمسهم يد الله المؤدّبة لكي تعلّمهم طريق البرّ والكرب يبدأون في الحال بالتذمّر غير راغبين في تحمّل الضيقة ويجدّفون على الله ويبتعدون عنه، وينتهي عمل الله الذي بدأ للتوّ في قلوبهم.
وغالباً ما يحدث أنّ هؤلاء الناس في حال سماعهم إزدراء بإيمانهم للوقت يعتري قلوبهم الجبن والخجل الكاذب الذي يخنق فيهم بذار الإيمان المسيحي. هذا ما تعنيه كلمة المسيح عن البذار التي سقطت على أرض صخرية.
وسقط آخر في الشوك، فطلع الشوك وخنقه فلم يعط ثمراً. هذا ما يحدث غالباً مع حبّة القمح التي تسقط في الشوك والقرّيص والأعشاب الطفيلية. وهذا ما يحصل أيضاً مع أولئك الذين نفوسهم وقلوبهم مثل الأرض التي أنبتت شوكاُ وأعشاباً ضارّة.
وقد تسألون: "ما هذه الأعشاب الضارة والأشواك؟" هذه كلّها نبتت من البذار السّامة والرديئة الغير صالحة للأكل – حقد البشر والسعي لإشباع الشهوات والأهواء التي تدمّر كل طيبةٍ في قلوبنا. فكيف ستنمو بذار الله في وسط هذا كلّه؟ من البديهي أنها ستختنق سريعاً ولن تأتي بثمر.
وسقط آخر في الأرض الجيدة، فأعطى ثمراً يصعد وينمو، فأتى واحد بثلاثين وآخر بستين وآخر بمئة. هكذا يجب أن يكون أيضاً في قلوب البشر وفي قلوبكم، من أجل أن تكون مفتوحة وخاشعة أمام الله وتفتحوا بصائركم الروحية وآذانكم الروحية لكي تتقبلوا كلمة الله التي نواظب نحن الرعاة على بذرها في قلوبكم.
يجب عليكم أن تحافظوا على كلمة الله، لدى خروجكم من الكنيسة برعدة وباهتمام عظيم حافظوا عليها واحملوها إلى بيوتكم مثل كأس ثمينة مملوءة حتى الحواف مخافة أن تريقوا منها نقطة واحدة. يجب أن تحضروا هذه النعمة الإلهية سليمة إلى بيوتكم. ولن يتمكّن من هذا إلا الذين قلوبهم تشبه الأرض الجيدة، وأنا أعرف بأن لدى الكثيرين منكم قلوباً بيضاء وطيبة.
وأيضاً... لا بدّ من أن تتبلّل البذار بالأمطار المبكرة والمتأخرة وأن تتدفأ من حرارة الشمس وأن تتعرّض لأشعتها. هذا ما يجب أن تهتمّوا به. قد تسألون: "كيف يتسنّى لنا أن نسقي بذار الله؟" فأجيبكم: بالدموع! اسقوها بدموع التوبة عن خطايانا. أضيئوها بنور المحبّة كما بشعاع الشمس. دفئوها بدفء الأعمال الصالحة وبالرحمة وبالشفقة نحو القريب.
فستنمو في قلوبكم البذار التي زرعتها أنا خادم الربّ الغير مستحق. وعندما أنهي عملي كزارع وأمضي إلى الراحة الأبدية، عندها سأقف بدالّةٍ أمام العرش الإلهي وأقول: "ها أنا والأولاد الذين أعطانيهم الله" (عب 2: 13). آمين.
القدّيس لوقا المعترف رئيس أساقفة القرم
29 أكتوبر 1944
المصدر: التراث السلافي الأرثوذكسي