سماسرة الموت!!!
جيد إنْ تعيش الحياة بملئها، كما تريد أنتَ أنْ تعيشها، أنْ تنطلق نحوها بكل رغبة وأمانة، أنْ تبني أسوارها، وتختبر حياة مليئة بالغني والبركة والفرح، أنْ تعيش الحياة بحلوها ومرها، بمسراتها، وسيئاتها، وحتى حين تمسي الحياة رمادية باهنة، ومليئة بالمرارة، واكتآب شديد، عندما يبدأ الصراع مع الإحساس بالدونية. أنت تعمل جاهدا على استنهاضها كلما سبتتْ، أو كبت، وتستطيع أنْ تحرك قدميكَ اللتان تسمرتا بسبب الظروف، وتسعى أيضا على إطالتها بعض الوقت إذا أمكن، ويعيد كل نبض إلى الحياة، لكل من يخوض في المستنقع القذر، حيث يزداد إحساسه بالغربة والضياع. لكل من تعثرت قدماه ولا يستطيع النهوض، لكل من كانت عيناه في سواد الليل البهيم، لكل من سقط في الحمأة، واليأس، وكل مرض نفسي وروحي.
نعلم أيضا أنّ الموت ليس إلا موتا، أيّ رجوع التراب إلى الأرض التي أخذ منها، ولا يمكن أنْ يوصف الموت إلا بالموت فقط، ولا شيء آخر سوى الموت. وقد نفشل كثيرا في إعطاء هذه الكلمة معناها، وفحواها الحقيقي، لكننا من جانب آخر، ندرك تماما ماذا يختبئ وراء هذه الكلمة، التي اتسع مفهومها، فالموت يدخل الرعب إلى القلوب، وهو الشر الذي لا يمكن تجنبه. لننظر إلى أين تمتد سلطة الموت وسطوته، وكم هي قوية شوكته. فالموت لا غيره، هو الذي يحاربنا، وإنْ بقي صامتا، فهو لا يحني رأسه البتة. هو وحده الذي يطلق النار على جرحاه من دون رحمة، ويعمل بطرق لا يمكن التنبأ بها. هو يسقط كثيرين صرعى، يتعثر الإنسان القوي. وقيل إنّ الموت هو دين الحياة على الجنس البشري، الذي ينبغي أنْ يدفع ذلك عاجلا أو آجلا.
المولود البشري الذي يحيا، لا بد أنْ تأخذ حياته عاجلا أو آجلا، مسارا جديدا، أنْ يموت ويرى الموت، وإنْ كان يرفض الانحناء أمام الموت، وأنْ يتسربل رهبته القاتلة، ما دامت المعركة دون هوادة، مستمرة في كل لحظة من الحياة. وليس من كائن هنا على أديم هذه البسيطة، التي قذفته أمواج الحياة على تخومها، قادر من أنْ يمنح رجاء لنفسه، في أنْ يوقظ الموتى من سباتهم العميق، ليرجعوا إلى الحياة بأجسامهم الفانية، لأنّ الإنسان ينبغي أنْ يعيش على الأرض، ويمارس الحياة بطبيعة جديدة أفضل، تهزم كل الضعفات والسقطات، تمتلأ حرية من أثقال الموت. والحياة ليست إلا حلما طال لكي يصير عمرا. وليس خطأ أنْ يتفادى البشر السقوط في براثن الموت، رغم أنّ الموت مع هزيمته لا يتراجع قيد شعرة، ولن تتحطم أسواره.
لكن الأمر المحزن هو، ليس الشكوى عن الموت، ولا على كأسه المريرة، ولا على أرزائه، ونتائجه الوخيمة، ولا هو عن سبب وضع الموت على عتبة الحياة، وبين مسراتها. لكن الأمر الحقيقي هو، لماذا يموت البشرعلى كيفية غريبة يائسة مهينة حقيرة، لا تختلف قطع عن موت البهائم ؟ أجل، نرى اليوم الكثيرين، هم في عجلة من أمرهم، وفي رغبة عارمة لا نظير لها، يندفعون في الكثير من الأحايين إلى طريق الموت، وإلى مساراته التي لا عدّ لها. نراهم يدفعون معهم عنوة آخرين، لا رغبة لأولئك في الموت، ولا أنْ يسيروا على خطواته، وينهوا كل صراعات الحياة قبل الأوان ! أنْ يموتوا مثل السمكة الصغيرة التي تقترب من الطعم.
الأمر المحزن، هو أنّ أناسا كثيرين يتناولون موضوع الموت بطرق غريبة، هم يفضلون الموت على الحياة في أحاديثهم، وقد أصبحوا مطروحين تحت قدميه، وبدت ابتسامة واهية تزحف إلى أفواههم. هم يتحدثون عن الموت ليل نهار، في اليقظة، وفي الغفوة، وعند أيّة فرصة تتاح لهم للتحدث عن الموت، فالموت فتح لهم بابا للحرية. هم يتحدثون أكثر بكثير من الحياة، وعن مسراتها. بطريقة مثيرة للجدل، تسلب القلب، وتسبي السامع. هي أسلوبا لا يخلو من الاشتياق والرغبة إلى الموت، كيفما كان شكل الموت وبشاعته، وما وراء الأكمة ما وراءها، إنْ قتلا، ذبحا، حرقا.
ولم يقتصر الموت على أنفسهم، بل هم تطوعوا للموت، وصاروا وكلاء له. هم أخذوا على عاتقهم مسئولية تجنييد الآخرين للموت، طوعا كان ذلك أو كرها، في سبيل أنْ تبقى راية الموت السوداء، مرتفعة ترفرف على كل حدب وصوب، في أرجاء المعمورة. ففي الموت، بحسب عقولهم المتهرئة. و بعد القفز على عالم غير مرئي، تبدأ جولة البحث عن الحب، وارتشاف كؤوسا مترعة منه، وعن رغبات وشهوات وملذات، لا يطفئ غليلها إلا الحب، والجنس، وأمور غريبة، حيث ، يبقى ذكرها أمرا قبيحا جدا. تلك هي رؤى أجناد الموت من البشر، الذين لا يرون شيئا أبعد من أنوفهم، الذين جمّلوا الموت، وأبدعوا له صورا حلوة، فدفعهم إلى أغواره السحيقة، حيث الظلمة الدامسة، والأوهام، وفتح عليهم أبواب الجحيم.
هناك من أجناد الموت، الذين يزدرون بالعقول، ويسعون جاهدين أنْ يخترعوا أدوات للموت كل يوم، لكي يحصدوا نفوسا كثيرة، ويدفعوا بالناس إلى أتون الموت المضطرم، بهدف أنْ ينهيوا حياة أولئك المتعبين من الحياة، بغية أنْ يتخلصوا من أعبائهم الثقيلة ومعاناتهم، بالضربة القاضية، لأنّهم باتوا غير فادرين على احتمال أعباء الحياة، أو أنّ أحلامهم سوف لن تتحقق إلا بعد أنْ يرتشفوا كأس الموت.