عظة عن الصليب للقديس يوحنا الذهبي الفم
اولا: مجد الصليب وفخره
1 ـ اليوم يا أحبائي نُعيّد ونحتفل إذ أن السيد على الصليب والشمس متوارية.
ولا تتعجب من أن الأمور التي تسبب التجهم والعبوس هي نفسها التي نحتفل بها،
إذ أن كل الأمور الروحية تختلف عن الأمور الجسدية المعتادة .
ولتعلم هذا بالتمام.
كان الصليب في السابق اسمًا للقصاص والعقاب،
أما الآن فهو اسم للفخر والاحترام،
كان الصليب في السابق موضع عار وعذاب،
أما الآن فأصبح سبب مجد وشرف.
وكون أن الصليب هو مجد يؤكده قول المسيح
" أيها الآب مجدني بالمجد الذي كان لي عندك قبل تأسيس العالم"
(يو5:17).
فالصليب هو قمة خلاصنا،
الصليب هو مصدر عشرات الآلاف من الخيرات،
بواسطته صار المنبوذين والساقطين مقبولين في عداد الأبناء.
به لم نعد بعد مُضللين بل للحق عارفين.
بالصليب أصبح الذين كانوا فيما مضى يعبدون الأخشاب والأحجار،
يعرفون خالق الكل.
بالصليب نال عبيد الخطية عتق الحرية بالبر.
به صارت الأرض سماءً،
فهكذا (بالصليب) تحررنا من الضلال،
وهكذا نلنا الإرشاد إلى الحق.
هكذا تمم الله أمرًا يليق به تجاه البشر.
هكذا أقامنا من عمق الخطية ورفعنا إلى قمة الفضيلة.
هكذا أباد ضلال الشياطين وهكذا كشف الخداع.
بالصليب لم يعد هناك دخان،
ولا دماء حيوانات مهرقة،
بل في كل مكان نجد الاحتفالات الروحية والتسابيح والصلوات.
بالصليب هربت قوات الشر وفر الشيطان.
بالصليب تتسابق الطبيعة البشرية لتنضم إلى محفل الملائكة.
بالصليب صارت البتولية مستوطنة على الأرض.
فحيث أتى المسيح من عذراء فقد فتح طريق هذه الفضيلة أمام طبيعة البشر.
بالصليب أنارنا نحن الجلوس في الظلمة.
بالصليب حرَّرنا من الأسر، وبعد أن كنا بعيدين صرنا منه قريبين.
هكذا بالصليب خلُصنا، وصار لنا هذا الفداء بالفعل.
هكذا بالصليب بعد أن كنا غرباء صرنا مواطنين سمائيين.
هكذا بالصليب بعد أن كنا نُحارب صار لنا السلام والأمن.
وبالصليب لم نعد نخاف سهام الشيطان، فقد وجدنا نبع الحياة.
بواسطة الصليب لا نحتاج فيما بعد الزينة الخارجية لأننا نتمتع بالعريس .
وبه لم نعد نخاف الذئب فقد عرفنا الراعي الصالح
" أنا هو الراعي الصالح " (يو11:10).
وبه لن نرهب الطاغية إذ صرنا في جانب الملك .
ثانيا : لماذا نحتفل بالصليب؟
أرأيت كم هي الخيرات التي قدمها الصليب لنا ؟
إذن يحق لنا أن نقيم عيدًا له.
ولهذا أوصانا بولس الرسول أن نُعيّد قائلاً
" فلنعيّد لا بالخمير العتيق.. بل بفطير الاخلاص والحق" (1كو8:5).
ولماذا توصينا أيها الرسول المغبوط بولس أن نحتفل بالصليب ؟
لقد أوضح السبب " إن فصحنا المسيح قد ذُبح لأجلنا" (1كو7:5).
أرأيت كيف يكون الصليب عيدًا للمسيح؟
أعرفت أنه يجب أن نعيّد للصليب؟
لقد ذُبح المسيح على الصليب، وحيث تكون الذبيحة هناك عتق من الخطايا،
هناك مصالحة مع الرب، هناك عيد وفرح.
ثالثا : المسيح : الذبيحة والكاهن
لقد قيل إن فصحنا المسيح ذُبح من أجلنا. فقل لي أين ذُبح؟
لقد ذُبح مرفوعًا على الصليب.
المذبح جديد ومختلف عن أي مذبح،
لأن الذبيحة جديدة ومختلفة عن أي ذبيحة،
فهو نفسه الذبيحة والكاهن.
أما كونه ذبيحة فبحسب الجسد، أما كونه كاهن فبحسب الروح،
وهو نفسه المقدِّم والمُقدَّم.
فاسمع أيضًا ما يقول بولس
" إن رئيس الكهنة الذي يؤخذ من بين الناس إنما يُقام من أجل الناس ليقدم عنهم (ذبائح) لله،
أما المسيح فلم تكن له حاجة إلى ذلك إذ قرَّب ذاته" (عب8:5، 3:8).
ويقول بولس الرسول في موضع آخر
" إن المسيح قُدِّم مرة واحدة ليحمل خطايا كثيرين" (عب 28:9).
لقد قُدِّم ههنا، أما هناك فقدَّم ذاته. أرأيت كيف صار ذبيحة وكاهنًا معًا،
وكيف كان الصليب مذبحًا له؟
رابعا: لماذا صُلب المسيح خارج المدينة ومرتفعًا على الصليب؟
ومن الضروري أن تعلم لأي سبب لم تُقدم الذبيحة داخل الهيكل اليهودي،
لكن خارج المدينة، خارج الأسوار. لقد صُلب خارج المدينة مثل أثيم حتى يتم ما قيل بالنبي
" إنه أُحصى مع الأثمة" (إش12:53).
ولماذا صُلب خارج المدينة مرتفعًا على الصليب،
وليس تحت سقف ما؟ لكي يطهر طبيعة الهواء.
فهناك وهو مرفوع على الصليب لم يكن يظلله سقف بل سماء،
لكي يطهرها مرة بذبح الخروف هناك عاليًا على الصليب.
وكما تطهرت السماء، فإنه طهّر الأرض أيضًا.
فعندما سال الدم من جنبه تطهرت الأرض من كل دنس.
ولماذا لم تقدم ذبيحة الصليب تحت سقف أو في هيكل يهودي؟
أعلم أن هذا أيضًا ليس أمرًا بسيطًا، فقد حدث ذلك
لكي لا يدّعي اليهود أن الذبيحة تخصهم وحدهم،
أو يُظن أنها قُدمت عن هذا الشعب فقط، ولهذا قُدمت خارج المدينة
والأسوار لكي تُعلِمهم أن الذبيحة هي مسكونية،
وأيضًا أنها قُدمت عن الكل.
وأن تطهير الطبيعة شامل لكل الأرض، بعكس اليهود الذين أمرهم الله
أن يتركوا الأرض كلها ويُبقوا لأنفسهم مكانًا واحدًا للصلاة وتقديم الذبائح،
بسبب أن الأرض كلها كانت مدنسة بدخان ودماء ذبائح الوثنيين وأدناس اليونانيين.
أما بالنسبة لنا فقد جاء المسيح وتألم خارج المدينة وطهّر كل المسكونة
وجعل كل موضع مكانًا للصلاة. أتريد أن كيف أن الأرض كلها أصبحت هيكلاً
وأن كل مكان أصبح مكانًا للصلاة؟ أسمع أيضًا ما يقوله المُطوب بولس
" فأريد أن يصلي الرجال في كل مكان رافعين أيادي طاهرة بدون غضب ولا جدال"
(1تي8:2).
أرأيت أن المسكونة كلها تطهرت،
إننا نستطيع أن نرفع أيادي طاهرة في كل مكان؟
فلقد صارت إذن الأرض بأسرها مقدسة،
بل بالحري أقدس من قدس أقداس اليهود.
وكيف يكون هذا؟
هناك في قدس الأقداس يُقدم خروف من الحيوانات
غير العاقلة أما هنا فالخروف عاقل (ناطق).
وبمقدار ما تفوق الذبيحة العاقلة الذبيحة غير العاقلة،
هكذا يفوق تقديس الأرض (بالصليب) على أقداس اليهود.
وبالتالي فالصليب هو عيد حقًا