التّوبة: صليب أم تبرير؟
كلّنا خطّاؤون. إنّها الحقيقة المُرَّة الّتي يختبرها كلّ إنسان.
ولكنّ هذه الحقيقة، على قساوتها، لا تُفْقِدُ المؤمنين رجاءهم، لأنّهم يعيشون حالة الخلاص الّذي أتاهم مجَّانًا بالمسيح يسوع. ألمْ يأتي ربّنا ويتنازَل ويلبس بشريّتنا ليخلّصنا من موت الخطيئة؟!. المؤمنون، موتى الخطايا، يحيون بيسوع الإله المخلِّص لـمّا يتوبون. الجماعة المؤمنة هي، أساسًا، جماعة توّابين. نُقِرُّ أنّنا خطأة، ولكنّنا لا نستسلم للموت لأنّنا أبناء الرّجاء. الحياة عندنا أقوى من الموت. لنا باب التّوبة إن طرقناه يتدحرج حجر الخطيئة عن باب قلوبنا. وإذ نتأمّل في الخطيئة لا بدّ من الحديث عن التّوبة الّتي تخلّصنا من الموت.
التّوبة هي في أن يغيّر الإنسان ذاته، ويغيّر طريقه، ويخلع إنسانه القديم الوسِخ العَفِن، ويلبس الإنسان الجديد مُسْتَنِيرًا بالنّور الفائض من قبر السّيّد. ألمْ يعلِّمنا الكتاب المقدّس أنّ آدم القديم قد مات على الصّليب وقام آدم الجديد، المسيح الإله، ظافِرًا إلى الأبد. إزاء الخطيئة واقِعًا التّوبة هي دواؤنا الشّافي، والسّبيل الوحيد الّذي يجعلنا نقطف ثمار القيامة ظَفَرًا مع السّيّد وغلبةً على الشّرّ.
التّوبة أوّلها إقرار واعتراف بالخطيئة وشعور بالمَرارة: "إنّي أخطأت إلى السّماء وأمامك..." قال الابن الشّاطر لأبيه، وتضرّع العشّار في صلاته: "إرحمني يا ربّ أنا الخاطىء". إنّها نوحٌ ودموع.
ثمّ هي إيمان بأنَّ "فرحًا عظيمًا يكون في السّماء بخاطىء واحِدٍ يتوب". هي إيمانٌ بأنّ الله يقبَلُ التّائبين الصّادقين المتّجهين نحوه بعدما غادروا حضنه، وذاقوا المرارة، وتذكّروا المحبّة الّتي كانوا يَنْعَمُونَ بها.
إنّها، ثالثًا، فرح بالتّغلّب، بقوّة الرّوح القدس، على الشّيطان وزبانيته، والتّحرّر من الأفكار والميول الشّرّيرة. "إذهب بسلام ولا تهتمّ البتّة بما اعترفت به من الخطايا"، تقول خدمة سرّ الإعتراف.
والتّوبة، أخيرًا، هي ذوق لقيامة المسيح الغالِب، وعزم أكيد صادِق بأنْ لا نعود إلى الخطيئة، وأن نعمل أعمال الصّلاح والبِرّ الّتي يصفها الكتاب المقدّس "بالأثمار الّتي تليق بالتّوبة". المؤمن التّائِب حامِلٌ صليبَه دائمًا، يتوجّع من معاصِيه وهو ظافِرٌ بإكليل النّصر بقدر ما يَقْبَلُ نفسه مصلوبًا سحابة عمره. باختصار التّوبة منطقها الوحيد الصّليب.
أمّا ضعف البشر فيجعلهم يهربون من منطق الصّليب هذا باللّجوء إلى منطق التّبرير. يبرّرون خطاياهم ويَعْزُونَها لألفِ سببٍ وسبب، لعُقَدٍ يَعُونَهَا أو لا يعونها، لعوامل ضاغطة مَوْرُوثَة أو مُكْتَسَبَة. همّهم أن يهربوا من المسؤوليّة. وكأنّ خطاياهم غير مقصودَة، أَتَوْهَا مُكْرَهِين لظروفٍ واعتباراتٍ يسمّيها الكتاب العزيز: "التّعلّل بعلل الخطايا". مثل هذا المنطق لا علاقة له البتّة بالتّوبة المسيحيّة النَّصُوح.
منطقنا نحن المؤمنين هو منطق الصّليب والجهاد الموصول ضد النّفس، وليس هو، من قريب أو بعيد، منطق التّبرير المُجَهِّل فاعِل الشّرّ.
+افرام كرياكوس
مطران طرابلس و الكورة