يوسف العجيب وعناية الله _ يوحنا ذهبي الفم
هكذا يوسف العجيب ابن يعقوب، فان مجده ومكافأته توقفت على الحسد والوشاية التي كان ضحيتها، وعلى حبسه وقيوده وسائر الآلام التي ألمت به. ولا شك في أن فضيلة العفة كانت عظيمة عنده. ولا شك، كذلك، في أن إنتصاره على تلك المرأة المصرية الغنية، وثباته أمام إلحاحها، في فتنتها وإغرائها، كانت فضيلة سامية جداً، ولكن جائزة آلامه حجبت جائزة عفته.
إن مكافأة يوسف العظمى إنما جاءته من مصائبه: من المخاطر التي تعرض لها من جراء رفضه، والفخاخ التي نصبت له، وجنون العاطفة الثائرة والعنف الذي أخذ به. أجل مكافأته إنما جاءته من حبسه ظلماً.
وإني لأراه في ذلك الوقت، وقت حبسه، مكللاً ببهاءٍ لا مثيل له أكثر ما كان عليه حين كان جالساً على عرش مصر يوزع المؤونة للشعوب في سني الجدب، وينقذهم من المجاعة، وحين كان ملجأ لكل الذين كادوا يهلكون جوعاً ! وأنه ليبدو أجمل في عيني، والقيود في رجليه، منه في كل بهاء ملابسه وفي أوج سلطانه! وإني لأراه أيضاً أحب إليّ يوم كان بغيضاً إلى أخوته، محاطاً بالأعداء في بيته، منه يوم كان أثيراً إلى أبيه مفضلاً ومدللاً عنده.
إنسان كان شاباً سليل أسرة شريفة، تربى إلى ذلك الوقت في بيت أبيه متمتعاً فيه بكل حريته، فإذا به يجد نفسه قد باعه أخوته، وسلموه إلى قوم غرباء لا يعرف لسانهم يختلفون عنه كل الاختلاف بطبائعهم وأخلاقهم، وهم أقرب إلى الوحوش منهم إلى البشر. ثم يرى نفسه بدون وطن ولا منزل، عبد يباع من بيت إلى بيت ! ينحط إلى أسفل دركات العبودية، وهو لم يعمل شيئاً يستحق عليه هذه الخاتمة. ولم تقف مصائبه عند هذا الحد، بل ان الإهانات تلاحقه يمسك بعضها ببعض.
فأين هو من تلك الأحلام الحلوة العجيبة التي كانت قد كُشفت له قبلاً بأنه سيصير يوماً معبود أخوته! والتجار الذين اشتروه لم يحتفظوا به لأنفسهم، بل باعوه مرة ثانية إلى تجار آخرين قاذفين به هكذا إلى بربرية أخرى ... نراه في هذا البلد المصري العجيب الذي كان أهله يومئذ في حرب دائمة جنونية مع الإله الحقيقي، وبين تلك الأفواه الغاشمة والألسنة التي كانت تتلفظ دائماً بالتجديف.
ولكن له هنا وقفة ليستريح قليلاً. فإن الله الذي يرتب كل شيء بصلاحه سراً، قد أعطاه سيداً أفضل، وقَلَبَ الوحش المفترس الذي اشتراه إلى حمل.
على أن الاستراحة لم تكن طويلة. فها هو الله يهيء له ساحة جديدة لمعركة جديدة، ويكلفه القيام بدور بطولي جديد يقتضيه جهاداً ومشقة كبرى. ها هي ذي امرأة سيده تسمر في وجهه يوماً نظارت اثيمة فتفتتن بحسنه، وإذا شهوة صاخبة مجنونة تسيطر عليها، وإذا هي تنقلب من امرأة إلى لبوءة لتفترسه! تهيأ ليوسف عدو في ذلك البيت يختلف عن الأعداء الأولين. فلقد كان عدوه، في المرة الأولى، الكراهية التي أثارتاخوته عليه.
وأما في هذه المرة فكان عدوه الحب الذي كان تلك المرأة وليَّةً له. وفي هذا النزال الجديد مع هذا العدو الجديد من الخطر ما يفوق خطر الأول، بمرتين وثلاثة وألف مرة.
وإذ علمت أنه تخطى الشرك المنصوب بوثبة واحدة، فلا تتصور أنه خرج من المعركة ظافراً بغير جهاد ومشقة. حقاً، أن تلك المعركة كلفته كثيراً من المشقة وكثيراً من العناء. وإذا أردنا أن نتبين صحة ما أقول فلنتصور كيف يكون الفتى في فجر الفتوة ونضارتها. وقد كان في الحقيقة في سن تكون فيها الطبيعة على أشد قدرتها. والشهوات تثور كأنها العواصف، وصوت العقل خافتٌ لا يرتفع. فالحكمة ليست للشباب على الغالب، والفضيلة ليست موضع اهتمام كبير عندهم. تلك المرحلة من العمر تثور فيها عواصف الأهواء الشديدة، ويضعف سلطان العقل كثيراً.
وكما أن يد الفرس كانت تمتد إلى كل ما تصل إليه لتحشو بها جوف الأتون البابلي لتزيد ناره ضراماً، وتهيء له بلا إنقطاع وقوداً جديداً، هكذا، لكي تغذي نار شهوتها كانت تلك الشقية تستعمل كل ما تصل إليه يدها: من سحر ريحها، ومسحوق الخدود، وكحل العينين، وغنج الصوت، ودلال المشية، وفتنة الحركات، وإغراء الشباب، وبعبارة واحدة كل ما من شأنه أن يستهوي الفتى ويجذبه ويغلبه.