قراءة الوجوه
وطالعتُ، أيضًا، وجهًا معتمًا. صديقٌ لم أره منذ سنين طويلة.
حنطيّ البشرة، أسود العينين. جاءني للتّحيّة. لم يَشِخْ وحسب.
لم يكن فيه ضوء. مصفرّ، مسودّ، مخضوضر!
كأن ما للطّبيعة البشريّة فيه نفد ولمّا يُقِم فيه النّور!
على شيخوخة الطّبيعة ترتسم علامات الموت، وعلى شيخوخة النّعمة،
ترتسم علامات طفولة النّور!
ما رسا في قلبه عتماتُ عُمر، ولمّا تنفتح عليه أبواب الملكوت، كما يبدو.
قلتُ في نفسي: هو بحاجة إلى اعتراف من الأعماق، ربّما إلى توبة عنيفة صدوق إلى ربّه،
إلى مساهمة متواترة للقدسات، إلى دمعة، إلى رجاء...
كأنّ ربّه بقي على هامش مسيره. وكأن اهتماماته شكّلت عائقًا دون نفاذه إلى ربّه،
أو، قلّ، دون نفاذ ربّه إليه! كأنّ الموت استوطنه قبل أن يشدّه إلى القبر!
رجوت أن يقيمه ربّه قبل موته! خسارةُ نفس واحدة أفظع كارثة كونيّة!
وعندك، في الوجه، بخاصّة، العينان. أبرز لغات الإنسان لغة المقلتين.
العين الوقحة، العين المكسورة، العين الشّهوانيّة، العين الخفرة...
العين قد تستدير خوفًا أو شكًّا أو اتّهامًا أو قلقًا...
وقد تتراخى شهوةً أو تغور سهوًا. قد تكون كلّها إلى الخارج،
وقد تكون إلى الدّاخل، لا تفطن إلى ما حولها ولو مفتوحة!
قد تطالعك وهي تنضح بالسّلام، بالفرح، بالوداد، بالرّضى، بالشّكران.
وقد تطالعك بكلّ شدّة وألم وضيق.
العين الخارجيّة هي الموصولة مباشرة بالعين الدّاخليّة، أي بالقلب.
فإذا ما كان القلب نيِّرًا، استبان النّور من طاقة العين.
وإذا ما كان كتلة شهوات معتمة، فاضت العتمة من كوى العين، أيضًا وأيضًا.
كلّ الكيان مَخرجُه ومطلّه العينان. الإنسان، في نهاية المطاف، عين!
ليس موضع تعاين فيه الإنسان على حقيقته أكثر من العينين.
العينان لا تكذبان. اللّسان يكذب. وبحركة الجسد الإنسانُ يَخدَع.
أمّا العين فلا سبيل إلى تحويرها.
قد يتباكى صاحبها أو يتظاهر بما ليس فيه، لكنّه لا يذهب بعيدًا.
ينكشف سريعًا لمَن كان على استقامة في الحسّ!
ثمّة قوم يحجبون عيونهم بالنّظّارات.
بعضهم تجميلاً، وبعضهم لحماية العينين من أشعّة الشّمس، وبعضهم ليُخفي،
وبعضهم ليتخفّى!
العين فضّاحة، لا مَن يزوِّر شهادتها! العين حاملة سرّ! من طبيعة النّور!
كلّ عضو ثمين، لكنّ العين أثمن الكلّ! بؤرة الحبّ والحنان بامتياز، وكذا بؤرة الكراهية والقسوة!
هي مدخل الكيان ومخرجه! العين لغة غير المنظور!
من فوق تستمدد ألِفباءها، وإلى المعالي تشير، وبين النّاس تشهد!
كلّ الملكوت قابلٌ لأن يطلّ منها وكلّ الجحيم...
أيضًا! لا ننسينّ ابن الله "الّذي له عينان كلهيب نار" (رؤيا 2: 18)!
وجهك يا ربّ أنا ألتمس! أن تقيم في عينه، في قلبه، في رحِمه،
هو، في النّهاية، المرتجى...
كلّ الحياة الأبديّة هو أن تغسل وجهك في بركة سلوام، أي المرسَل،
والمرسَل هو إيّاه مَن تشتهيه وجهًا لوجه...
"ناظرين مجد الرّبّ بوجه مكشوف" (2 كورنثوس 3: 18)...
تغسله في الماء الحيّ، في المرسَل إيّاه...
وكلّ الحياة الأبديّة أن تبصر بعدَ عمًى أنزلتْه عليك قشورُ الخطيئة (أعمال 9: 18)...
وتمتلئَ من الرّوح القدس (أعمال 9: 17)...
طوبى لعيونكم لأنّها تُبصِر، قال الرّبّ يسوع لتلاميذه.
فتصيرون كلّكم عينًا وعيونًا حين يصير الوجه إلى الوجه!
"الآن ننظر في مرآة، في لغز، لكن حينئذ وجهًا لوجه" (1 كورنثوس 13: 12)!
متى استقرّت العين في العين، حينئذ يستقرّ الحبيب في قلب الحبيب!