الرهبانية ومؤسسوها
بقلم مار أثناسيوس أفرام برصوم مطران بيروت وزحلة سابقا
نشأ نظام الرهبانية، أي حياة التبتل والزهد والاعتزال،
مع المسيحية في مهدها، فقد وُجد منذ صدرها رهبان وراهبات تبتلوا وتعبّدوا،
وكانوا يقيمون في البراري أو القرى أفراداً أو مجتمعين اثنين أو ثلاثة،
ويذكر العلامة ابن العبري أن الرهبانية عُرفت بعد الصعود بمائة سنة،
ويشير يوسطينوس الفيلسوف في كتاباته التي يرجع تاريخها إلى سنة 160م
إلى ألوف العذارى اللواتي نذرن حياة الزهد والبتولية،
وبعده بأربعين سنة يطالب ترتليانوس بإعطائهن المكانة اللائقة بهن في الكنيسة.
على أن الرهبانية لم تتخذ شكلاً بارزاً في حياة المسيحية إلاّ في القرن الرابع،
إذ هرع كثيرون من الرجال إلى البوادي والبراري للتعبد والابتعاد عن ضوضاء الحياة المادية العالمية،
وعلى مرّ الزمن تطورت هذه الحركة حتى غدت قوة هائلة إلى جانب الكنيسة النظامية،
وتفرع موكب المسيحية إلى قوتين،
إحداهما في المدن والحضر تحت زعامة الأساقفة تحيا الحياة المسيحية في الأوساط الوثنية،
وهرعت الأخرى إلى القفار لتحياة حياة الزهد وإذلال النفس،
بالروح عينها التي بذل بها الشهداء حياتهم من أجل السيد المسيح.
وجذبت الرهبانية في أول عهدها أقوى المسيحيين روحانية وأعمقهم تعبداً،
مما جعلها فيما بعد ـ على الرغم من ابتعادها عن العالم وبعدها عن الكنيسة ـ
أن تتولى الزعامة في الحياة الفكرية المسيحية.
زار أحدهم الأديرة المصرية في القرن الرابع فقال يصف حياة الرهبان:
«يعمل بعضهم في استغلال الأرض، وآخرون في الحديقة،
وبعضهم في حانوت النجارة، وآخرون في صناعة السلال أو حياكة ملابس الكتّان،
أو دباغة الجلود أو صناعة الأحذية، بينما كان يتفرّغ آخرون للدرس والكتابة في غرف خاصة، وكانوا
يتعلمون الكتاب المقدس استظهاراً».
إذن، من كدّ أيديهم كانوا يزوّدون أنفسهم بالطعام والكساء،
وأما لباسهم فكان جلباباً من الكتان فوقه رداء خشن وقلنسوة صغيرة،
ومنطقة من صوف يحزم بها الرداء في ساعات العمل، ونعالاً في القدم،
وقد حمل كل منهم على كتفيه فروة، وأمسك بيد عكازاً،
وإذا تبقى منهم طعام أو بعض المال من بيع منتجات أيديهم،
كانوا يوزعونه على فقراء الفلاحين في القرى القريبة منهم.
قال القديس يوحنا الذهبي الفم في الرهبان في معرض حديثه عن فضيلة التواضع:
«تعال معي نطوف في البراري والجبال وبطون الأودية،
ونشاهد الذين تخلّوا عن الغنى والمراتب العالية والشهوات الزائلة والأموال والأراضي،
ولزموا الأعمال المتعبة والحرف الحقيرة، هذا يحرث الأرض ويزرع ويحصد،
وذاك يجمع الحطب أو يسفّ الخوص أو يشتغل بعمل القفف أو يخدم الفقراء.
هؤلاء كلهم أعرضوا عن الكبرياء والافتخار وروّضوا أنفسهم على التواضع،
فأشرقت على الأرض فضائلهم وجذبوا الناس إلى عمل الخير».
ولكنه ـ أي الذهبي الفم ـ مرّ يوماً وهو في طريقه إلى المنفى بناسك حبس نفسه في زاوية لا يغادرها،
فكان أصحابه يأتون إليه بطعامه، فصاح في وجهه قائلاً: «قم واشتغل في كرم الرب،
فإن ذلك أفضل عند الله من عيشة الكسل هذه، اخرج من زاويتك واذهب إلى أنطاكية،
وساعد في المناداة بالإنجيل في فينيقية».
ويذكر تاريخ الرهبانية أن بعض أولئك الزهاد أذلوا أنفسهم أيّما إذلال وعاشوا حياة جد قاسية،
فكان بعضهم لا يأكل إلاّ مرة واحدة كل خمسة أيام، ويمتنع البعض الآخر عن شرب الماء إلاّ نادراً،
كما عاش في أماكن ضيقة بحيث لم يكن في وسعهم مـدّ أرجلهم فيها،
أو فوق رؤوس الأعمدة كما فعل مار سمعان العمودي،
وحرم بضعهم أنفسهم لذة النوم مثل مار برصوم، وغير ذلك من أساليب القمع والإذلال.
وإذا كان هناك من يأخذ على هؤلاء الزهاد هذا النوع من الحياة فإنه لا يسعنا في الوقت نفسه إلاّ الإكبار
من شأنهم والاعتراف بأن كثيرين منهم وجدوا لذة روحية في تلك الحياة القاسية وبلغوا مرتبة رفيعة من
الغبطة وهدوء النفس، ولمع منهم معلّمون وزعماء روحيون خلّد التاريخ أسماءهم لأنهم حوّلوا المناسك
والديارات إلى مدارس زاهرة، فيها تربّى دعاة المسيحية وطبقات الأساقفة، والقديسون والكتّاب الذين
حفظوا للعالم كتب العلم والدين وزوّدوا أتباعهم ومريديهم بأفضل التعاليم عن الحياة المسيحية.
ومن مصر انتقلت الرهبانية إلى بلدان الشرق الأخرى،
واتخذت مواطنها في سواحل فلسطين الجنوبية وبادية الشام وبرية قورش وجبل الرها والجزيرة
وطورعبدين وجبل الموصل وجبل ماردين وضواحي قيصيرية قبدوقية وطورسينا.
ومن الشرق انتقلت الرهبانية إلى الغرب، إذ أن القديس أثناسيوس الإسكندري
عندما سافر إلى رومية سنة 330 سحب معه راهباً من النطرون في مصر يدعى «أمونيوس».
وكانت الرهبنة فكرة لم تخطر على الغرب ببال، فاستهواهم ما فيها من روحانية، واعتزموا اعتناق
مبادئها، ولكنهم لم يعتزلوا في أديرة في أول الأمر، بل ذهبوا إلى خلوة في فلسطين،
القديس هيرونيمس وأتباعه أول من سار في هذا السبيل،
ولم تتخذ الرهبانية في الغرب شكلاً منظماً إلاّ على يد الراهب بندكتوس،
وهو مؤسس ورئيس أول دير في جبل كاسينو على مقربة من نابولي بإيطاليا وذلك سنة 528م.
على أن الأديرة في الغرب لم تستطع محاكاة أديرة الشرق في التصلب
والتشديد في الامتناع عن كل أنواع المآكل المغذية، بل تسامحت في كثير من المواد
التي حسبها الراهب الشرقي متعة للجسد. كذلك تسامحت الرهبانية في الغرب في جهادها
وتفكيرها إلى حد بعيد، حتى غدت خلايا الأديرة أشبه بمنائر تشعّ منها العلوم والثقافة،
وتحوّلت الأديرة ـ كما في الشرق ـ إلى مدارس للتعليم والتهذيب،
فخرّجت منها مؤثرات كان لها أكبر الفضل في ترقية الحياة العلمية والعقلية والروحية،
وانتقل أولئك الزاهدون من خطة الاعتكاف عن العالم إلى خطة أخرى،
اتجهوا فيها إلى تهذيب العالم، وبثّ روح الحياة والتجديد في البيت والدولة والكنيسة.
...يتبع....