رحلة في لاهوت الأسبوع العظيم
الحلقة الثانية:
حبة الحنطة اذا ماتت أخرجت ثمرًا كثيرا
______________________________________
"ابتهجي جداً يا ابنة صهيون اهتفي يا بنت أورشليم. هوذا ملكك يأتي إليك. هو عادل ومنصور ووديع وراكب على حمار وعلى جحش ابن أتان" ( زكريا 9:9)
حمار الشعانين هو البهيمة التي جلس عليها يسوع في دخوله إلى أورُشليم. ذاك الدخول كان المرحلة الأخيرة من سيرته على الأرض قبلما تسمّر على الصليب وقام من بين الأموات.
لماذا الحمار؟ لماذا لم يدخل يسوع إلى أورشليم في مركبة أو على صهوة جواد؟
هذا لأنّ الحمار هو علامة السلام، فيما المركبة والجواد علامتا حرب. البشارة هي بِمَلك يُرسي قواعد السلام ويقطع دابر الحرب. لذا بعدما تكلّم زكريا عن المَلك الآتي قال الله بلسانه: "... وأقطع المركبة من أفرايم والفَرَسَ من أورشليم وتُقطع قوسُ الحرب. ويتكلّم [ملكُكِ] بالسلام للأمم ويكون سلطانُه من البحر إلى البحر ومن النهر إلى أقاصي الأرض" (زك 9: 10). الملك المنتظر، أو بالأحرى، المسيح المنتظر، يأتي عادلاً وديعاً. لا يأتي ظالماً ولا رجل حرب. لذا جلس على حمار.
الله، كما انكشف في مسيح الربّ، لا يأتي إلى الناس كقاتل بل كمقتول.
عدا ذلك يُسقِط الناس على الله نوازعَ نفوسهم. يؤلّهون العنف لهوىً في نفوسهم ويجعلون المولى إله حرب. لا الملوك المسيحيّون ولا الممالك المسيحية ولا الصليبيون ولا أمثالهم، ممن برّروا العنف والقتل باسم الله، كانوا له أمناء. سقطوا، شوّهوا صورة الله وكانوا بئس الشهداء وتسبّبوا في التجديف على اسم الله. يسوع قال فيها كلمته بوضوح لمّا أوصى تلاميذه مرة وإلى الأبد: "رؤساء الأمم يسودونهم والعظماء يتسلّطون عليهم. فلا يكون هكذا فيكم. بل... مَن أراد أن يكون فيكم أولاً فليكن لكم عبداً. كما أن ابن الإنسان لم يأتِ ليُخدَم بل ليَخدُم ولِيبذُلَ نفسه فدية عن كثيرين" (مت 20: 25 – 27).
يسميه زكريا النبي " ملككِ " علماً أن ملوكاً كثيرين قدموا إلى أورشليم ، لكن النبي يتحدث هنا عن ملك معين واحد ( ملككِ يا ابنة صهيون ) ، هذا هو الملك الأوحد المرسل من الله. لا أحد أتى مثله من قبله ولا أحد يأتي مثله من بعده، ولا يكون لمُلكه انقضاء.
الأتان كانت مؤشّراً إلى تواضع القلب. لم يكن السيّد ليتّخذها لو لم يكن وديعاً متواضعاً. "تعلّموا مني فإنّي وديع متواضع القلب". على أن تواضع القلب تجلّى، خارجياً، في المسكنة والدروشة. المقصود بالدروشة الظهور بمظهر الخلوّ من العزّة والكرامة الشخصية على أساس اعتبارات هذا الدهر. يسوع لا يطلب مجداً من الناس.
والأتان، أيضاً، علامة الصبر والشجاعة. لا شيء يثمر لديك إلاّ بالصبر. عيبُك، دائماً، أنّك في سعي لأن تصيب نجاحاً سريعاً. مع الله لا وصول إلاّ بالصبر. "بصبركم تقتنون نفوسكم".
لم يركب يسوع حصانا ولكن جحشا أي صغير الحمار، فإن موت السيّد أملى عليه دخولا متواضعا يواكبه فيه أطفال وبالغون لهم قلب طفل. يجلس على جحش "ليَحُلَّ بهيميّة الأمم القديمة" . يصوّر إلغاء الحيوانية التي نحن عليها ولكنّها لن تلغى إلا على صليبه. "الله الرب ظهر لنا فأقيموا العيد". عيد فيه اختفاء يسوع. ولكن الإله لن يظهر لنا حقيقته الا في حبه المسكوب على الخشبة وفي يوم نصره عند فجر الفصح. كم كنت أتمنّى الا يحصر الكبار العيد بأولادهم اذ الأحرى بنا، كبارًا، أن نحمل سعف النخل وأغصان زيتون لنقول ليسوع إن قلوبنا أمست معدّة لاستقباله على رغم خطايانا.
احد الشعانين او أحد النخل دخل يسوع اورشليم للمرة الأخيرة اذ كان ينتظر فيها موته وانتصاره على الموت. خرج الشعب لاستقباله هاتفًا كما في طقوسهم “هـوشعنا” (نقلا عـن اليـونانية نـقول في القداس “اوصَنّا”) وتـعني أعطِ الخلاص. وكان الكـهنة يـجيـبون في الهيكل: مـبارك الآتـي بـاسم الرب. وتكرّر هذا هنا.
اوضح يوحنا الانجيلي غاية الدخول الى أورشليم فجعل بعد اسطر من حادثة الشعانين قول السيّد: “ان حبة الحنطة التي تقع في الأرض ان لم تمت تبقَ وحدها، واذا ماتت، أخرجت ثمرًا كثيرا”.
إثر ذلك تدخل، لا بل تستوطن أورُشليم السماوية، لأنّ روح الله يكون قد ارتاح في تواضعك، بعدما تكون قد تروّضتْ بهيميتُك له. إذ ذاك تجيء منه ويصير هو فيك المتكلِّم والفاعل، وأنت ابناً لله.
المطران جاورجيوس ( خضر ) : مطران جبل لبنان
الأرشمندريت توما ( بيطار ) : رئيس دير القديس سلوان الآثوسي
بتصــــــرف