"الأب الروحي بحسب الكنيسة الأرثوذكسية"
للمتروبوليت ايروثيوس فلاخوس
في لاهوتنا، أنّ الكنيسة هي شركة أشخاص. هذا الأمر هو حقيقة، لكن إن لم أستطع أن أعيش هذه الشركة مع أبي الروحي لن أستطيع أن أعيشها مع أي إنسان آخر. بهذا المعنى يلد الأب الروحي إبنه الروحي في المسيح ويعلّمنا أن الحياة المسيحية ليست انغلاقاً على الذات، إذ أن الإنغلاق على الذات هو الجحيم. هكذا (حين لا ننغلق على ذواتنا) يعطينا الأب الروحي الفردوس. أخذ القديس بولس الرسول النعيم وأعطاه للآخرين، وهكذا كل مؤمن يحيا في الكنيسة عليه أن يأخذ كي يتسنى له أن يعطي. والفردوس الذي نتكلّم عنه ليس عبارة عن مجموعة من التعاليم وحسب، بل هو الحياة التي نحياها في المسيح. يفترض هذا أن يكون الأب الروحي عائشاً في التقليد الأرثوذكسي. وبمقدار إرتباطه بالمسيح يستطيع أن يربطنا به.
ثمّة صورة لها علاقة بما نقوله. فالمسيح هو أبونا وهو ابن الله ويطيعه حتى الموت. فبمقدار ما يكون الأب الروحي بالنعمة ابناً لله، بهذا المقدار يمكنه أن يكون أباً يلدنا في المسيح. هذه الصورة نصادفها أيضاً في الحياة الجسدية. فلكي يقدرَ شخص أن ينجب أولاداً من المفروض أن يصل إلى نضج معيّن وعمر معيّن. الأمر ذاته يحصل في الحياة الروحية أي أنّ الكاهن يجب أن يصل إلى نضج روحي معين حتى يستطيع أن يلد أولاداً في الروح. إنه لأمر رهيب أن يوجد كهنة عقماء لا ينجبون أولاداً روحيين، لأن هذا يعني أنهم لم يذوقوا حلاوة الحياة مع المسيح. يقول الآباء إن لم يكن فيك خوف الله ولا تتشبث به فأضعف الإيمان أن تتعلّق بشخص يخاف الله. يكفي الإنسان أن يلتقي في حياته مرة واحدة بشخص قديس حقيقة، ولو للحظات، وهذا اللقاء سيؤثر فيه لسنين طويلة. فهذه اللقاءات تجدّده داخلياً بإستمرار. نحن نلتقي حقيقة بأشخاص قديسين لكننا لا نشعر بهم لأننا خطأة. لكي يتم الخلق الذي نتحدّث عنه أو الحياة التي نتكلّم عنها هناك فرضيتان: الأولى: أن يوجد الأب الروحي الذي يستطيع أن ينجب أولاداً في المسيح. الثانية: أن يكون هناك أولاد يريدون أن يولَدوا في المسيح. إن هدف الأب الروحي أن يلدنا في هذه الحياة الروحية الجديدة لنرى الامور بنظرة أخرى، وليس أن نُستعبَد لأهوائنا، وعلى الأخصّ هو لا يريد أن يجعلنا أولاده الروحيين الخاصّين. فالشخص الذي يريد أن يخلق أولاداً روحيين له يعمل بطريقة بشرية، أما الأب الروحي الصحيح فهو الذي يعمل على إيجاد أولاد روحيين لله بالمسيح. لذا فالأب الروحي يعتبر أولاده كهدية قيّمة من المسيح وينظر الإبن الروحي، بالمقابل، إلى أبيه الروحي كعطية له من الله. وكما تعلمون لا تُستبدل العطية بالمُعطي ولا يُستغنى بالعطية عن المُعطي. وعندما نرى عطيةً ما فإننا نذهب باذهاننا فوراً إلى الشخص الذي أعطانا إياها. لذا فهدف وجود الأب الروحي أن يحرّرنا من أهوائنا، وبالتالي أن يقودنا إلى الاستنارة والوحدة مع الرب. ليس هدفه أن يستعبد أولاده الروحيين بل أن يحرّرهم. والحرية، عملياً، هي كما في الكتاب المقدس أن يصل الإنسان إلى استنارة الذهن (Nous) . يتساءل الرسول بولس في رسالته الأولى إلى أهل كورنثس قائلاً: "ألست حرًّا؟ ألم أعاين المسيح؟" يُخيَّل إلينا أن الحرية هي أن نختار بين الصالح والطالح. إلاّ أن هذا التفسير هو بالحقيقة التفسير الفلسفي لمعنى الحرية. للحرية طابع أنطولوجي (كليّ، كياني...) بكلّ ما للكلمة من معنى. فمَن يملك الحرية هو الشخص الذي يستطيع أن يسيّر حياته بذاته. وبهذا المعنى، الحرُّ هو الله. أمّا نحن البشر فليس لنا الحرية الكاملة المطلقة ولكن لدينا حرية نسبية، لأننا قبل أن نولد وندخل إلى العالم لم نكن موجودين ولم يسألنا أحد إن كنا نريد المجيء إلى هذا العالم. هذا السؤال يطرحه الكثير من الشباب: "إني ولدت دون أن يسألني أحد، دخلنا العالم من دون حرية!" نحن نعرف أنه قبل أن يُولَد الإنسان لا يكون موجوداً ليسأله أحد عن رغبته لكن يمكننا الوصول إلى هذه الحرية الكاملة عندما ندخل بملء إرادتنا الحياة الجديدة التي نتحدث عنها ونحدّد إتجاهنا نحو ملكوت الله. لذلك ينظر الأب الروحي إلى مشكلة ابنه الروحي ويساعده على التخلص من العبودية المهيمنة عليه، وبعد ذلك يتركه بحرية ليتّجه نحو الاستنارة والتألّه. لذا يقول بستان الرهبان: "إنّ الأب الروحي لا يقف من ابنه موقف المشرّع بل هو كأب ومرشد نحو الخلاص". بالإضافة إلى هذا، يهتمّ أيضاً بأمور أخرى بسيطة وعملية تخصّ أولاده الروحيين، لأن الإنسان لا يتكوّن من نفس فقط، بل من جسد أيضاً. يقول القديس سمعان اللاهوتي الجديد أن رئيس الدير، وبالتالي الأب الروحي، يُضطر إلى الاهتمام بالحاجات الجسدية والمادية المتعلقة بأولاده الروحيين، ولكن من ضمن هذا المنظار تُسخّر هذه الحاجات في خدمة هذا الإبن ليصل إلى الاستنارة.عمل الإبن الروحي في علاقته مع أبيه الروحي
أولاً: عليه أن يقتنع أنه بحاجة إلى مرشد وأب في حياته إذ لا يستطيع أيّ شخص اكتساب المعرفة الجسدية ما لم يكن هناك أساتذة يعلّمونه. الألعاب الرياضية أيضاً بحاجة إلى مدرّب مختبِر من دونه لا تنجح. فالمسيح في ظهوره لبولس الرسول على طريق دمشق أرسله إلى حنانيا، وكذلك أرسل الملاك العذراء مريم إلى اليصابات بعد البشارة. ينصح الآباء الإبن الروحي بأن يفتح قلبه لأبيه الروحي وأن يقول له كلّ شيء كي يساعده على تمييز الأمور التي من الله وتلك التي من الشرير.
يقول البعض "أستطيع التعلم بواسطة الإنجيل وكتب الآباء". هذا الأمر ليس سيئاً بحد ذاته أو مرفوضاً، بل هو ضروري لكنه غير كافٍ إذ هو بحاجة إلى لاهوت حيّ. لا يستطيع الطبيب أن يصبح جرّاحاً لمجرد أنه قرأ كتباً في الجراحة فقط، بل عليه أن يتّصل بالذين كتبوا هذه الكتب ويتتلمذ على أيديهم بشكل عمليّ كي يصبح طبيباً جراحاً. وفي ما يختص بالكتاب المقدس والكتب الروحية الآبائية، يجب أن تُدرس في جو التقليد الكنسي، لذا نرى أن الكنيسة تقرأ في الخدم الليتورجية مقاطع كتابية مناسبة.
ثانياً: يجب أن يبحث الشخص عن الأب الروحي المناسب له، وإذا كان يصلي من أجل هذا الموضوع فإن الله يساعده حتماً لإيجاد هذا الشخص.
ثالثاً: في البداية، على الأقل، من الأفضل ان يسأل الإبن عن كلّ شيء وفي كلّ الأمور، لأن البعض يُخفون أشياء ويسألون عن أشياء أخرى، وهذا خطأ كبير. يذهب المريض إلى الطبيب ليأخذ العلاج المناسب، فإن أخفى عليه أمراً لن يشفى بالطبع.
رابعاً: يجب أن يحترم الابن أباه الروحي ولو أظهر الأب الروحي وداعة في تصرفاته، لأن بعض الآباء يعاملون أبناءهم بودّ ولطافة ليساعدوهم، فيستغلّ بعض الأبناء هذه البساطة والوداعة ويقابلونهما بعدم الإحترام.
خامساً: يجب أن يصبر الابن الروحي في الحالات الصعبة لأنه في أوقات صعبة يلجأ الأب إلى إجراء "عملية جراحية"، وعادة يخاف الابن من مثل هذه الحالات فيهرب مبدّلاً أباه الروحي.
سادساً: لا يغيّر الابن أباه إلاّ لسببين تسمح بهما القوانين الكنسية:
1 – إذا سقط الأب في هرطقة ما.
2 – إذا طلب الأب من ابنه أمرًا يتناقض مع إرادة الله.
سابعاً: أن يعترف الابن اعترافاً حقيقياً صادقاً وليس شكلياً. يعاني الكثير في أيامنا من إنفصام في الشخصية لأنهم يعيشون حالة إنغلاق على ذواتهم. من هنا نلاحظ أهمية وجود شخص في حياة المرء يستطيع أن يفتح له قلبه وأن يقول له كلّ شيء. يعاني الشخص المتقوقع على ذاته من مشاكل نفسية عديدة، لذلك من المستحسن، عندما يعترف، أن يقول خطاياه وليس قصصاً عنها!
أخيراً، أودّ أن أتلو عليكم مقطعاً من كتاب "السلّم" للقديس يوحنا السلمي؛ يقول القديس: "من الأفضل للإنسان المسيحي أن يتخاصم مع الله من أن يتخاصم مع أبيه الروحي... لأننا إذا خاصمنا الله يستطيع الأب الروحي أن يعيدنا ويصالحنا معه. لكن إذا خاصمت أباك الروحي فمن سيعيدك إلى الشركة مع الله؟"