الشر في المفهوم المسيحي تكملة:ثانيًا:
نظرة مسيحية إلى الخير والشر والعلاقة بينهما:
1ـ هناك مبدأ واحد للوجود:
ليس من مبدأين للوجود, إنما هناك مبدأ واحد, وهو الله الذى هو بطبيعته ملء الخير والصلاح. فى النظرة الكتاابية, ليس الشيطان صنوًا لله, ليس إلهًا بل مخلوقًا.
2ـ الخليقة صالحة فى الأساس:
الخليقة, من حيث أنها تستمد وجودها من الله, إنما صالحة فى الأساس: [ وَرَأَى اَللهُ كُلَّ مَا عَمِلَهُ فَإِذَا هُوَ حَسَنٌ جِدّاً ] [ تكوين 1: 31 ]. والشيطان نفسه, فى النظرة الكتابية, كان فى الأساس ملاكصا نورانيًا يُدعى " كوكب الصبح". وقد ورد فى سفر الحكمة: [ فَإِنَّك تُحِبّ جَمِيعَ الكَائِنَاتِ, وَلا تَمْقُتْ شَيْئًا مِمَّا صَنَعْتَ, فَإِنَّك لَوْ أَبْغَضْتَ شيْئًا لِمَا كَوَّنْتَه, وَكَيْفَ يَبْقَى شَئ لَمْ تُرِدْه؟ , أَمْ كَيْفَ يُحْفَظ مَا لَمّ تَدْعُهُ؟ , إِنَّك تُشْفِق على كُلّ شَئّ , لأَنَّ كُلّ شَئْ لَكْ, أَيُّهَا السَيَّدِ المُحِبّ لِلْحَيَاةِ , فَإِنَّ رُوحَكْ غَيْر القَابِلِ لِلْفَسَادِ هُوَ فِى كُلّ شَئّ ] [ سفر الحكمة 11: 23 ـ 26 , 12: 1 ].
وكتب أحد شارحى الكتاب المعاصرين:
" إن المؤلف ( الكهنوتى لرواية الخخليقة ) يردّد كما تردّد لازمة: وَرَأَى اَللهُ ذَلِكَ أَنَّهُ حَسَنٌ [ تكوين 1: 10, 13, 21, 18, 25].
ويخلص قائلاً: وَرَأَى اَللهُ كُلَّ مَا عَمِلَهُ فَإِذَا هُوَ حَسَنٌ جِدّاً تكوين 1: 31
ولسوف يجد هذا التفاؤل مقابله عندما سيلاحظ الكاتب نفسه تكاثر الخطايا البشرية : [ وَفَسَدَتِ اَلأَرْضُ أَمَامَ اللهِ وَاِمْتَلأَتِ اَلأَرْضُ ظُلْماً. وَرَأَى اَللهُ اَلأَرْضَ فَإِذَا هِيَ قَدْ فَسَدَتْ إِذْ كَانَ كُلُّ بَشَرٍ قَدْ أَفْسَدَ طَرِيقَهُ عَلَى اَلأَرْضِ ] [ تكوين 6: 11, 12 ]. إنما الخليقة, بحد ذاتها, ينبغى أن لا تُصوّر حلبة صراع تتجابه فيها مبادئ متعارضة, صالحة وشريرة. كل أسطورية ثنوية غير واردة, لأن الله لم يعمل إلا ما هو حسن. إن هذه النظرة إلى الأشياء تتعارض مع أسطورة الخلق البابلية وتقف على نقيضها, ويجدر هنا التذكير بأن التاريخ المقدس الكهنوتى كتب أثناء نفى اليهود إلى بابل, كردّ فعل ضد الوثنية المحيطة ...".
3ـ الشر ينتج من كون الخليقة متمايزة عن خالقها:
فإن كان الله لا يصدر عنه إلا ما هو حسن ...
من أين يأتى الشرّ إذًا؟
الشرّ ناتج من كون الخليقة, وإن كانت تستمد وجودها من الله, متمايزة عن خالقها, ومن كون الخالق يحترم هذا التمايز, هذه الخصوصية التى لولاها لما كانت الخليقة قائمة فعلاً بل تحولت إلى مجرد ظل وامتداد للخالق...
فالله يمدّ الخليقة بالوجود وينسحب منها بآن, كى يتسنى لهذا الوجود أن يقوم بحد ذاته ...
ينسحب منها كما ينسحب البحر لتوجد القارات, يقول أحد اللاهوتيين فى صورة معبرة: " يحتجب ويتوارى كى تقوم لوجود الكون قائمة. يرتضى بالتالى بان يكون لوجود الخلائق نمطه الخاص المتميز عن نمط وجود الخالق. ومن طبيعة هذا النمط الخاص بالخلائق أن يكون عرضة للاضطراب, وبالتالى للشرّ, لأنه بالضبط متمايز عن كمال الخالق.
هذا علمًا بأننا ندرك بالإيمان أن الله يعمل باستمرار فى صميم الخليقة موجهًا إياها نحو أقصى ما يمكن لطبيعتها أن تبلغه من كمال,
إنما عمل الله هذا عمل تدريجى وطويل النفس لآنه يراعى طبيعة الكائنات ولا يغتصبها اغتصابًا ويحرص على أن يصنع الكون نفسه بمعنى من المعانى عبر تطوّر ومخاض,
على منوال المربى الحكيم الذى لا بدّ وأن يراعى تدرّج مراحل المنوّ لدى الذين يرعاهم.
4ـ نوعا الشرّ: طبيعى وخُلُقىّ ( ناتج عن انحراف الحرية ):
هذا الشرّ الناتج عن تمايز الخليقة, إنما على نوعين, طبيعى وخلقىّ:
أـ الشر الطبيعىّ : كالكوارث الطبيعية والأمراض وقسوة الصراع من أجل البقاء وناموس الموت والفناء. هذه الشرور الطبيعية تسبب آلامًا كثيرة وتسحق العديد من الكائنات.
ولكن لا يصح أن يُقال أنها من الله تأتى, بل الحق" أنه لا يمكنها أن لا تكون, لأن الكون ليس الله"...
لا بل لا يصح أن يُقال, كما نسمع عادة, بأن " الله يسمح بها", لأن الله, إذا سحق ناموس الكون الأبرياء, لا يتجلى , كما يوضح الفيلسوف الآرثوذكى الكبير نقولا بردياييف, إذ ذاك فى ناموس الكون بل فى آلام الأبرياء...
وقد عرفنا, فى يسوع المسيح, أن الله يعانى معنا, وأكثر منا بكثير, من كل الشر الذى يفتك بالأرض, [ الفيلسوف الكاثوليكى الكبير جاك ماريتان ] , وبأنه هو " حاضر مصلوبًا على كل شر الكون" حسب تعبير أوليفيه كليمان.
ب ـ الشرّ الخلقىّ: وهو وليد الحرية التى يمنحها الله للكائنات العاقلة على صورة حريته ( من أجل محبته الخاصة لتلك الكائنات التى جعلها على شبهه وأعدها لاتصال شخصى به وإلفة معه ), ولكنها حرية مخلوقة, وبالتالى غير كاملة, ولذا فهى عرضة للجنوح والاضطراب, وبعبارة أخرى فهى عرضة للشر.
يقول اللاهوتى الأرثوذكسى كالّيسوس وير:
... حاصل الكلام, لماذا سمح الله للملائكة والإنسان بأن يخطئوا؟ ... نجيب: لأنه إله محبة, المحبة تعنى المشاركة.المحبة تعنى أيضًا الحرية. الله, وهو ثالوث محبة, كان يرغب بأن يشرك فى حياته أشخاصًا مخلوقين, مصنوعين على صورته, وقادرين أن يجيبوه بحرية عبر علاقة حب. حيثما لا توجد حرية, لا يمكن أن يوجد حب. الإكراه ينفى الحب. وكما كان بول أفدوكيموف يقول: الله يستطيع كل شئ ... إلا إرغامنا على محبته. لذا فإن الله, إذ كان راغبًا فى مقاسمة حبه, لم يخلق كائنات آلية تطيعه آليًا, بل ملائكة وبشرًا زودّهم بالحرية. ومن جراء ذلك عينه, فقد خاض مجازفة, إذ مع هبة الحرية هذه وردت أيضًا إمكانية الخطيئة, ولكن الذى لا يجازف لا يحب فعلاً ...
لولا الحرية, لما كانت خطيئة, ولكن لولا الحرية لما كان الإنسان على صورة الله. لولا الحرية, لما كان الإنسان قادرًا أن يشارك الله فى علاقة حب
وقد كتب لاهوتى أرثوذكسى آخر:
كما بيّن دوستويفسكى بشكل رائع فى أعماله الروائية, حتى الشرّ الذى نفعله يذيع مجد الله لأنه مؤشر حريتنا التى بتحوّلها المفسد إلى تعسّف, إلى تأكيد متمرد للذات, تقودنا إلى الشرّ. الشر, برأى دوستويفسكى, دليل على أنه يوجد, فى كيان الإنسان الشخصىّ, عمق هو عمق الحرية, عمق يذيع, بصفته هذه, مجد الله
5ـ انحراف الحرية إلى الشر يأتى من سعيها إلى خير زائف:
أما انحراف الحرية الإنسانية نحو الشرّ, فإنه يتمّ من خلال سعيها إلى خير زائف لأنه جُعِل فى غير موضعه. ويحصل هذا الانحراف بموجب النمطين التاليين, المتكاملين:
أ ـ التوقف عند الذات الراهنة:
فقد يتوقف المرء عند ذاته الراهنة ويضفى على هذه الذات صفة مطلقة ويعتبرها محورًا للوجود. ولكنه, من جراء هذا الموقف, يسئ إلى ذاته معتقدًا أنه يسعى إلى خيرها, وذلك لكونه, بموقف هذا, يحجّمها, يقزّمها, يحكم عليها بالتقوقع وبالتالى بالاختناق, لأنه يحول دون انفتاحها على الآخرين وعلى الآخر المطلق ( أى الله ), ودون اتصالها بهم وانطلاقها من جراء ذلك فى رحاب المشلركة التى لا حياة لها حقيقية بدونها, لأن الإنسان, تحديدًا, هو ذاك الذى يشارك ولا يحقق إنسانيته إلا بالمشاركة. فمن تعبّد لذاته المحدودة يحول دون ولادة ذاته الواسعة, الرحبة, الغنية, المنتعشة, التى لا تتحقق ألا بتجاوز الإنسان لنفسه دون إنقطاع: [ مَنْ طَلَبَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا وَمَنْ أَهْلَكَهَا يُحْيِيهَا ] لوقا 17: 33
ب ـ عزل رغبة من الرغائب وتضخيمها:
هذا التأليه للذات كثيرًا ما يتمّ عن طريق عزل رغبة من الرغائب, وإضفاء صفة الإطلاق عليها على حساب الرغائب الحيوية الأخرى التى يجرى تجاهلها وطمسها, مما يؤدى إلى تعبئة الطاقات كلها لتلبية حاجة جزئية تتضخم بشكل سرطانى فتمتص الحيوية كلها وتحول دون تحقيق متكامل للكيان الإنسانى يحفظ توازنه وانسجامه وياخذ بعين الاعتبار كل أبعاده ومقوماته. هكذا ينقلب الخير المبتور, المحجّم, المنعزل, ذات الأفق الضيق, إلى شرّ.
فالحاجة إلى التملك مشروعة شرط أن تقترن بالسخاء, الذى يلبى حاجة المرء إلى العطاء. والحاجة إلى تأكيد الذات مشروعة شرط أن تقترن بمراعاة ذات الآخر والانفتاح إليها واحترامها ورعايتها, ذلك الآخر الذى احتاج إلى إيلائه أهمية لأنى به وحده اغتنى وبدونه أبقى عل هزالتى. والحاجة الجنسية أمر مشروع شرط أن تقترن بحاجتى, كى أبقى إنسانًا, إلى التوصل مع الآخر بتعهده بالحنا وبالاعتراف بفرادته. فالرغائب الإنسانية تسعى بحد ذاتها إلى غايات خيّرة, إنما تنقلب هذه الغايات إلى شرّ إذا تفرّدت إحدى هذه الرغائب واستقلت , وانعزلت , واستأثرت بطاقات المرء على حساب رغبته المحورية فى تحقيق ذاته على وجه متكامل. هذه الرغائب التى تزيح الرغبة الأساسية لتحتل مكانها هى ما يُسمى بالأهواء.
:) ................يتبع