رحلته الأخيرة
قلاية الأب بورفيروس في منسك القدّيس جاورجيوس
خلال آخر سنتين من حياته كان يتكلم باستمرار عن تحضيره للمثول أمام الدينونة.
أعطى أوامر محددة عن رغبته في أن يدفن في كافسوكاليفيا.
في الأخير قرّر أن يذهب إلى هناك بنفسه ما دام حيًّا.
عشية عيد الرّوح القدس من العام 1991،
غادر الأب بورفيريوس باتجاه الجبل المقدس بعد أن كان قد اعترف وأخذ الحلّ عن خطاياه من أبيه الرّوحي
المسنّ والمريض. استقرّ هناك وٱنتظر النّهاية.
غادر الأب بورفيريوس الدّير في ميليسي وفي نيّته عدم العودة ثانية.
لقد تكلّم بما فيه الكفاية مع أبنائه الرّوحيين ملمّحًا أحيانًا وأحيانًا أخرى قائلاً لهم بصراحة إنّه يراهم للمرة
الأخيرة. قبل ذلك كان كلّما ذهب إلى الجبل المقدّس يحاول أولاده الرّوحيّون حمله على العودة إلى أثينا
بسبب صحته الرّقيقة وصعوبة العيش في كافسوكاليفيا أو لتعزيتهم،
حتّى ٱضطر إلى العودة مرّتين، وكلّ مرّة لم يكن يبقى إلا بضعة أيام ثم يسرع عائدًا إلى الجبل.
آخر مرة غادر فيها، خشي أن يضطره أولاده إلى العودة خاصة أنّه اعتاد طيلة حياته أن يتمّم مشيئة الآخر
لذلك قال لأحد تلاميذه: ”إذا قلت لك أن تأخذني إلى أثينا، ٱمنعني، لأنّ هذه ستكون تجربة من الشرير“.
وبالفعل حاول العديد ترتيب عودته إلى أثينا، ولكنْ على غير طائل.
مقبرة الأب بورفيريوس
وشاء الرّب الإله أن يحقق للشيخ رغبته بأن يموت ميتة الأبرار في منتهى البساطة وبعيدًا عن الأنظار
محاطًا فقط بتلاميذه الّذين كانوا يُصلّون معه.
في آخر ليلة من حياته الأرضية، ذهب الشيخ ليعترف بخطاياه ثم أخذ يردّد صلاة يسوع دون توقّف
بصمت على الطريقة الهدوئية. قرأ تلاميذه المزمور الخمسين ومزامير أخرى ثم خدمة المحتضرين
وأخذوا يصلّون صلاة يسوع معه حتّى أتموا قانون الاسكيم الكبير.
بكثير من الحبّ قدّم له تلاميذه ما احتاجه من تعزية جسدية وروحية.
وللحظات طالت سمعوه يتمتم صلاته إلى أن قال كلمته الأخيرة: ”فلتكن مشيئتك“.
بعدها قال كلمة واحدة نجدها في رؤيا القدّيس يوحنّا في العهد الجديد: ”تعال“.
وجاء محبوبه الرّب يسوع ونقل روحه الطاهرة إلى السّماء،
كان ذلك في 2 كانون الأوّل عام 1991 عند السّاعة 4:31 صباحًا.
أُلبس الشيخ على الطريقة الرّهبانية ونقل إلى كنيسة كافسوكاليفيا.
هناك بحسب التقليد قرأ الآباء الإنجيل المقدّس كلّ النّهار، وفي الليل أُقيمت سهرانية.
كلّ شيء تمّ وفق توصيات الشيخ الّتي كتبها ليمنع الالتباس. وفي صباح 3 كانون الأوّل،
دُفن الشيخ في إسقيطه في كافسوكاليفيا يحيط به عدد قليل من الرّهبان.
عندها فقط تمّ إعلان وفاته كما أوصى.
من أقواله
محبّة المسيح والقريب
- الحياة من دون المسيح، ليست حياة. هذا كلّ ما عندي لأقوله لكَ؛
إذا كنت لا ترى المسيح في كلّ أعمالِكَ وأفكارِكَ، فأنت تعيش بعيدًا عنه.
هو كل شيء، هو الفرح، هو الحياة، هو النّور، النّور الحقيقي، الّذي يفرِّح قلب الإنسان،
ويعطيه جناحين ليطير، ليرى كلّ شيء، ليتألّم من أجل الكلّ،
ويرغب في أنّ كلّ إنسان يكون معه في هذا الفرح بقرب المسيح.
- حبّنا للرّب الإله يجب أن يكون عظيمًا دون أي سهوٍ.
يخال لي أنّ الإنسان يملك بطّارية فيها كمية من الطاقة.
إذا ما فرّغ هذه الطاقة على أي شيء آخر إلا حبّه لإلهه،
تضمحل الطاقة الّتي يملكها حتّى تكاد لا توجد بعد. ولكن إذا وظّف كلّ الطاقة الّتي يملك في خدمة الإله
ومحبّته فإنّها تتكاثر. ليس هناك طريق متوسطة في المسيحيّة، يجب أن نرتقي بحبّنا للمسيح...
عندها فقط كلّ شيء يصبح سهلاً.
- ما هو الفردوس؟! - المسيح... لا تهتم أن يحبّك أحد.
لأنّك هكذا سوف تفشل. أنت فقط استزد من حبّك للمسيح وللجميع، عندها،
وبطريقة سرّية، يأتي التحوّل ويمتلء كيانك.
- ٱختر دائمًا الكلمات اللطيفة لتقول أي شيء للآخر حتّى لا تخلق جوًا من العدائية.
فالّذي يكذب مثلاً قل له إنّه في بعض الأحيان ربما لا يقول الأشياء بدقة.
توزيع الحسنات
- إذا لم يكن باستطاعتك المادّية أن توزع الحسنات بشكل مستمرّ وللجميع،
على الأقل ساعد الآخرين بالتكلّم معهم، وسماع مشكلاتهم وآلامهم، مرافقًا إيّاهم حتّى لا يشعروا بالوحدة.
اليأس
- المؤمن لا ييأس... الكنيسة لا تعرف اليأس، مهما كانت الأسباب.
ربما يمرّ الإنسان بظروفٍ محزنة تثقّل عليه، لكنّه لا ييأس...
ٱعترف بخطاياك والله قادر أن ينتشلك.
- الحساسيّة الزائدة خطأ كبير، لأنّ المرء بالضيق الّذي يتكبّده بسبب الحساسية،
يخلق شتى أنواع الأمراض النفسية، والأمراض النفسية هذه هي من الشيطان.
- إعلم يا بني أنّ لا شيء يحصل بالصّدفة. لكلّ تفصيل في حياتك هدف.
ولا شيء يحصل من دون سبب، لا تسقط قشّة من الشجرة من دون إذنه.
وعندما تتكدّر من المتاعب كثيرًا يهبك الرّب الإله في الوقت المناسب ما لم يكن في الحسبان
بالطريقة الّتي هو يحبّنا فيها ويعتني بنا كأب بأولاده.
المرض
- لا يوجد مرض نفسي إلا عند غير التائب.
لأنّ النّفس تمرض من الخطايا المرتكبة من دون توبة.
- إذا مرضنا يجب أن نتبع تعليمات الطّب والمنطق. ولكن فوق كلّ شيء يجب أن نسير بحسب مشيئة
الله واضعين كلّ ثقتنا بحبّه.
- سأله أحدهم مرة لماذا لا يتناول الكثير من الأدوية رغم صحته المعتلّة.
فأجابه: ”عندما يسلّم المسيحي نفسه بالكليّة لربّه وإلهه، واضعًا كلّ ثقته فيه،
يعطيه الرّب الإله السّلام الداخلي في جسده وبالنتيجة تتحرّك كلّ الأعضاء والغِدَد بشكل طبيعي فنحصل
على الصّحة. لأَنّ الخطيئة والقلق والأَنانية أحيانًا تزيد أو تُبطئ حركة هذه الأعضاء الطبيعية
وبالتالي يمرض المرء.
- جاءت مرّة سيّدة لتعترف عند الشيخ. فنظر إليها بعينيه الرّوحيتين فرأى أنّها مريضة
بمرض السّرطان. فسألها ما إذا كانت تشعر بشيء. فأجابته أنّها تشعر بألم ولكنّها تخجل من البوح به.
فأرسلها إلى طبيب في المستشفى ليفحصها. على الأثر شخّص عمرضها بأنّه سرطان في صدرها.
طلب منها إجراء بعض الفحوصات لكي يُجري لها عملية بعد ثلاثة أيام.
ذهبت السّيدة إلى الشيخ بورفيريوس وسجدا سوية وصليا قلبيًا صلاة يسوع.
ثم نهض الشيخ ورسم عليها. إشارة الصّليب وقال لها أن تفعل كلّ ما يطلبه الأطباء.
بعد ثلاثة أيام ذهبت إلى المستشفى لإجراء العملية، فاستبان أنّها شفيت تمامًا.
فترك الطبيب المعاين المستشفى مسرعًا ونزل إلى الشيخ وقال له: ”
ماذا فعلت لهذه السّيّدة أيّها الكاهن حتّى شفيتها؟
لأنّي لو لم ألمس بيدي الورم السّرطاني لما صدقت العجيبة!“.
نعمة الله تعمل فينا على قدر إيماننا لخلاصنا. يجب أن يؤمن المرء أنّ المعجزات تحصل اليوم أيضًا.
لأنّ المسيح هو هو أمس، اليوم وغدًا.
تربية الأولاد
- جاءه والدان يعانيان من ولدهم لأنّه صعب المراس ولا يسمع الكلمة.
فقال لهما الشيخ: ”إفهما ما أقول. خلاص ولدكما متوقّف على تنقية نفسيكما وقداسة سيرتكما“.
- يجب على الأم أن تصلّي لأولادها كالشمعة الّتي تذوب.
يجب أن تصلّي بصمت، ويداها مرفوعتان صوب المسيح... مصليةً بحب كبير ... والرّب سيقودهم“.
الإعتراف والمناولة
- كان الشيخ بورفيريوس يقول:”يا أولادي، إعترفوا باستمرار بخطاياكم،
ساهموا القُدُسات وأَحبّوا كلّ البشر. لا شيء آخر... لأنّك حتّى لو كنت بطريركًا ولا تعترف باستمرار، يصعب خلاصكَ “.
- في كثير من الأحيان، كان الشيخ يساعد المعترف بالبوح بخطايا لم يذكرها
ولا يتذكّرها ولم يكن يشكّ أنّها خطايا أصلاً، حتّى إنّه قام، مرة،
بسرد كلّ الخطايا الّتي للمعترف دون أن يكون هذا الأخير على دراية بأكثرها.
- ما اعترفت به مرّة، لا تذكره ثانيةً، لأنّك تبتَ عنه وحصلت على الحلّ، ولا تيأس مهما كانت
خطيئتك... فالتوبة هي مثل البرق!.
القدرة على العمل (التعب – الحركة)
- كان الشيخ بورفيريوس يشدّد كثيرًا على العمل خاصة للشباب.
لم يكن يقبل أن يكونوا بطّالين، فاترين أو قليلي الانتباه.
كان يولي الأمر أهمية كبيرة... يجب على الإنسان أن يكون في حركة دائمة،
مستعملاً جسده على الدوام لكي لا يصير رخوًا. لم يكن يقبل الكسل ولا الرّخاوة.
ضد المسيح والـ666
- سأله شخص:”هناك كلام كثير عن الـ 666، ومجيء المسيح الدّجال.
البعض يزعم أنّه أتى في الوسمة الإلكترونية على اليد اليمنى والجبهة. فأنت ماذا تقول؟.
أجابه الشيخ:”أنا ماذا أقول؟ لن أقول إنّي عاينت الكليّة القداسة،
أو أنّها ستحصل حروب أو أي شيء من هذا القبيل. أعرف أنّ المسيح الدّجال سوف يأتي،
والمجيء الثاني لربنا يسوع المسيح ولكن لا أعرف متى! اليوم؟ بعد ألف سنة؟
لا أعرف. إلا أنّ هذا لا يقلقني. لأنّي أعرف أنّ ساعة الموت لنا كلنا هي مجيء السّيّد الثاني.
وهذه السّاعة قريبة جدًا!“
- قال الشيخ بورفيريوس: ”بالنسبّة لنا نحن المسيحيين إذا كنّا نعيش في المسيح فليس هناك ضد
المسيح! قل لي، هل تستطيع أن تجلس على السّرير الّذي أنا نائم عليه؟“.
- ”لا، أيّها الشيخ“.
- ”لماذا؟ لأنّك إذا جلست سوف تضغطني! الأمر نفسه ينطبق على روحنا. إذا كان المسيح يملأ
كياننا، لن يستطيع ضد المسيح أن يدخل... وإذا كنّا في المسيح، فنحن في الفردوس“.
في الصّلاة
- بدون صلاة لا نستطيع أن نقوم بشيء، الصّلاة هي أمّ كلّ الفضائل،
إذا تلوناها بتواضع القلب، من دون أية أنانية، حبًّا بالمسيح“.
الختام
يصعب وصف الشيخ بورفيريوس بهذه السّطور.
صلاته الّتي كان يرفعها لأجل خلاص كلّ النّاس، يشعر بها المقربّون منه وحتّى البعيدون.
كثيرًا ما كان يشفي النّاس من أدوائهم النفسية والجسدية برفعه صلاة قلبية إلى ربّه أو بتقديسه الماء
ونضحه عليهم. أنقذ ذات مرّة فتاة كانت مصمّمة على الانتحار وقد أعدت العدّة لذلك،
فكان حضوره لديها في الوقت المناسب.
لم تكن هذه الفتاة تعرفه آنذاك ولم تتعرف إليه إلا في وقت لاحق... ”
مجانًا أخذتم مجانًا أعطوا“. هذا بالفعل ما طبّقه الشيخ بالمواهب الّتي أغدقها الرّب الإله عليه،
الرّب يسوع المسيح، الّذي أحبّه من كل جوارحه ونذر له حياته.
فلتكن صلاته معنا. آمين