الأسبوع الأول من الصوم الكبير
كلمـة لقدس أبينا الروحي الأب متى المسكين
على إنجيل اليوم
«إن أعثرتك يدك فاقطعها. خير لك أن تدخل الحياة أقطع من أن تكون لك يدان وتمضي إلى جهنم...».
هذا المسلسل من البتر لليد والرجل وقلع العين هو منهج النسك العالي
للذين أعثرهم العالم وهُم لا يريدون أن يعيشوا في الخطية.
ولتوضيح هذا القانون الروحي الصارم يلزم أن نفهم أن حياة الطهارة والبر
والقداسة في وسط عالم الخطية والعثرات تتطلب احتمال فداحة الثمن.
فالذي يريد أن يعيش طاهر اليد لا يمدها للحرام، أيًّا كان الحرام نوعه،
سواء نجاسة أو سرقة أو اختلاس أو تزوير أو غش أو إيذاء بالضرب،
فإن ضبط اليد من جهة اليد نفسها وما يحركها من فكر وضمير ونيَّة
وإرادة يحتاج إلى شدة وعنف وإصرار وقطع في الضمير والقلب والنيًّة
وربط اليد بالإرادة، بحيث أن هذه الشدة وهذا العنف لا يقل عنفهما ألماً من
آلام قطع اليد وما يتأتى من ذلك من آلام وعجز وفضيحة.
هكذا يصوِّر المسيح منهج ضبط اليد لكي لا تمتد للحرام من العنف
والصعوبة
ما لا يقل عن قطعها بالإرادة أو بالقانون( ) .
ونُعيد ونؤكد أن هذه الوصايا هي على مستوى الروح، بمعنى أن نقطع
ونُهلك ونُميت ونصلب هي كلها بالنية من الداخل، بالروح،
وهذا الإجراء الروحي لهو أشد فعالية مئات المرات من الإجراء الجسدي.
فهذه الأفعال القاطعة بالنية بالروح في الداخل قادرة بالفعل أن تبطل
وتشل حركة هذه الأعضاء، لأن الفعل بالنية إذا كان صادقاً
وعلى مستوى التكميل يقابله عند الله قبول شديد، باعتبار أن الإنسان
يكون في نظره قد أكمل الفعل، فيكمله هو له بأن يُحوِّله إلى الضد.
وأعظم مثل لذلك هو ما صنعه المسيح يوم الخميس الكبير،
إذ صلب نفسه بالنية وقدَّم جسده مكسوراً ودمه مسفوكاً قبل أن يتمم ذلك
فعلياً بالجسد علي الصليب يوم الجمعة، فصارت ذبيحة يوم الخميس على
مستوى ذبيحة الصليب يوم الجمعة. أو كما صنع إبراهيم لمًّا أكمل
بالنية ذبح ابنه؛ فكان أن حسب الله لإبراهيم أنه أكمل فعلاً وحقاً
ما أمره به حتى دون أن يكمِّله جسدياً( ).
هكذا عِوض تكميل قطع الأعضاء جسدياً لبتر الخطايا منها، يحفظها الله
في إطار نعمته ويُحوِّلها إلى أعضاء مقدسة ترتعب من الخطية
وتعمل الصلاح بحرية، وتؤول لدى صاحبها إلى قداسة وفخر ومجد،
تماماً كما قال المسيح حرفياً
: «من يُهلك نفسه من أجلي يجدها».
هنا الإهلاك بالنية يُحوِّله المسيح إلى تكميل روحي حيث يبطل عمل الذات
ويلاشي سلطانها بنعمته، لتتحول إلى ذات مقدسة للمسيح،
أي لا تعود بعد تتبع أمور العالم؛ بل تتبع الله لتكميل أمور الله.
يقول بولس الرسول:
«لا تُملِكن الخطية في جسدكم المائت
«لكي تطيعوها في شهواته، ولا تقدموا أعضاءكم آلات إثم للخطية؛
بل قدموا ذواتكم لله كأحياء من الأموات، وأعضاءكم آلات بر لله»
، هنا عامل القطع والخصي والإهلاك والإماتة والصلب هو من عمل الروح،
والروح إذا تسلط على الجسد يضبطه ويقمعه ويشل حركته
ويُحوِّله إلى أداة الصلاح عِوض النجاسة والإثم.
المسيح هنا لا يخاطب إنسان الجسد؛
بل يخاطب الروح في الإنسان لتتسلط على خطية الجسد لتقطع منه أصول
الخطية وعروقها.
ويُلاحظ السامع أن المصدر الذي تداعى منه ذكر هذا القانون النسكي
هو نفسه الآية السابقة التي تنص على عدم إعثار أحد الصغار،
وإلا فخير لمن يعثر ولداً أن يُربط عنقه بحجر رحى ويُلقى في البحر.
فالإعثار هو الذي ربط الحديث السابق بهذا الحديث.
فانظر عزيزي السامع وتأمل الغرامة المريعة التي يستحقها من يعثر ولداً!
فلكي نتخطى الإعثار لابد من جهاد ومجاهدة ضد الذات والجسد.
جهاد يساوي على الأقل في الألم والمعاناة الغرق في لجة البحر
أو قطع اليد أو الرجل أو قلع العين.
فلو تأملتَ معي عقوبة إنسان ترك لعينه الحرية أن تنظر في الأجساد
وتشتهي وتملأ شهوتها في القلب ماذا تكون؟
عقوبتها ما هو لعقوبة الزنى الفعلي.
لا زناة يدخلون ملكوت الله! فانظر فداحة الغرامة
. إذاً علينا أن نُحوِّل هذه الغرامة إلى مجاهدة إرادية في الإرادة والفكر والضمير والعين ذاتها.
هذا هو المنهج النسكي الصارم الذي يقترحه المسيح أن نسلكه بالإرادة
لكي ننجو من نار جهنم ودودها. أما نارها فأشد وأقصى من نار الأرض عشرات المرات،
فهي نار الندم الذي يحرق الضمير ويظل يحرقه إلى أبد الآبدين
. أما الدود فهو الإحساس بالخسارة التي تلاحق الضمير والنفس بلا نهاية(
).